ومن عجائب البخاري، أيضا، أنه قد بدأ التأليف مُبكّرًا جدًّا -فى سن الثامنة عشرة- وكان باكورة إنتاجه العلمي الغزير كتاب “قضايا الصحابة والتابعين”ثم موسوعته الهائلة “التاريخ” الذي كان يسهر لتأليفه عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة المُنوّرة. ومن مؤلفاته أيضا “تفسير القرآن الكريم” و”الأدب المفرد” و”خلق أفعال العباد” وغيرها.لكن أشهر ما جمعه وأخرجه للناس هو كتابه “الصحيح” الذي يضم أكثر من سبعة آلاف ومائتي حديث نبوي شريف. و سبب كتابة الصحيح أن البخاري كان يحضر مجلس الإمام العظيم إسحاق بن راهويه، فسمعه مرة يقول لتلاميذه “لو جمعتم أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم فى كتاب” ولم يلتقط الفكرة سوى أصغر الحاضرين، النابغة البخاري، الذى صمّم على جمع الأحاديث الصحيحة في كتاب، وهو ما تحقّق بعد ذلك بسنوات طوال.. وقد بدأ كتابته داخل البيت الحرام، واستكمله في المسجد النبوي الشريف، واستغرق في إنجازه 16 سنة كاملة، وراجعه عدة مرات. وروى أحد مُعاصريه أنه كان يستيقظ من نومه 20 أو 30 مرة ليلا، ليراجع إسناد حديث، أو يدوّن ملاحظات على إحدى الروايات، أو يضيف حكما فقهيا فى عنوان أحد الأبواب، أو يدوّن رأيا لصحابي أو تابعي.. إلخ.. ووصف كثير من العلماء صحيح البخاري بأنه: “أصح كتاب بعد القرآن الكريم” واستفاد به ومنه معاصروه ومن جاءوا بعده من أهل الحديث والتفسير والفقهاء والعلماء في سائر الأنحاء،ثم جميع المسلمين إلى يوم القيامة.
وكان رضي الله عنه لا يكتب حديثا سمعه من شيوخه إلا بعد أن يتوضأ ويصلى ركعتين، ويستخير الله تعالى، ويتأكّد من صحة رواية الحديث. ولا يروى البخاري حديثا إلا عن أهل التقوى والصلاح والصدق والعلم والدراية التامة، فضلا عن الضبط وحضور الذهن وتمام العقل. وكان يشترط أن يكون الراوي قد عاصر شيخه الذي أخذ الحديث عنه، وأن يكون قد قابله شخصيا، ليتأكّد من أنه قد تلقى هذا الحديث منه مُباشرة وليس بواسطة. و كل هذا جعل من صحيح البخاري أهم دواوين السُنّة المُطهّرة، وأصحّها على الإطلاق.
ومن الغريب أن قلة من العلماء يُقدّمون عليه “صحيح مسلم” مع أن مسلما يكتفي بشرط أن يُعاصر الراوي شيخه الذي روى عنه الحديث، ولا يشترط اللقاء بينهما فعلا -كالبخاري-وهذا يؤكّد أن إسناد أحاديث البخاري أقوى، وفي كُلِ خير.. وقال الإمام الدارقطنى: “لولا البخاري ما راح مسلم ولا جاء”. وقد عرض الإمام البخاري كتابه -الصحيح- على الإمام أحمد بن حنبل والإمام ابن المدينى والإمام يحيى بن معين وغيرهم فاستحسنوه وشهدوا له بالصحة،إلا أربعة أحاديث قال الإمام العقيلى عنها: “والقول فيها قول البخاري” أي أنها صحيحة بدورها كما رأى البخاري.
ومع فضله وعلمه وصحة أحاديثه، كان الإمام مسلم نفسه من تلاميذ الإمام البخاري. وثبت أن مسلما لقي البخاري يوما، فقبّل رأسه ويديه، وقال له،تواضعا واعترافا بعلمه وفضله: “دعنى أقبّل رجليك يا أستاذ الأستاذين، وسيد المُحدّثين، وطبيب الحديث فى عِلَلِه “وقال له مرّة أخرى -بعد أن صحّح له البخاري إسناد حديث-: “لا يُبغضك إلّا حاسد،وأشهد أنه ليس في الدنيا مثلك” وكذلك كان الباقون مشاهير أصحاب دواوين السُنّة، كالترمذي وابن ماجه والنسائي والحاكم والبيهقى ومن دونهم،من تلاميذ البخاري. بل ثبت أن كثيرا من شيوخه الذين علّموه،قد تعلّموا منه ونقلوا عنه لاحقا ما لم يكن عندهم من الأحاديث،و{ذَٰلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ ۚ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} سورة الجمعة:4
وقال الإمام الحاكم: رحم الله الإمام محمد بن إسماعيل -البخاري- فإنه الذي ألّف الأصول، وبيّن للناس، وكل من عمل بعده فإنما أخذه من كتابه، كمسلم وغيره”.
- حمدي شفيق يكتب: رجال من التابعين.. «زِر بن حبيش» - الخميس _23 _مارس _2023AH 23-3-2023AD
- حمدي شفيق يكتب: كرة القدم مباحة.. وإليكم الدليل - الأثنين _12 _ديسمبر _2022AH 12-12-2022AD
- حمدي شفيق يكتب: السابقون.. سلمان سابق الفُرْس (2) - الخميس _27 _أكتوبر _2022AH 27-10-2022AD