في بلاهة وبراءة، كانت الجاموسة تمعن النظر في اللا شيء، من فوق سيارة نصف نقل توقفت بجانبي في إشارة عبثية تقطع الطريق الهابط من أكتوبر إلى الهرم، حيث لا ميدان ولا تقاطع طريق عند هذه الإشارة، وراديو السيارة يبث أخبار طلب الرئيس الأوكراني من نظيره الروسي وقف القتال والعودة للمفاوضات، يعتصر خلاياي الألم على الأبرياء الذين اقتيدوا للمذبحة من الجانبين وراحت أرواحهم هباء من أجل مغامرة سياسية وعسكرية للقادة.
حانت التفاتة من الجاموسة باتجاهي، تلاقت عينانا، تبادلنا النظرات لوهلة، لم تفهم بالتأكيد نظرتي في شفقة لها وهي تمضي لسكين الذبح، وبالتأكيد لم تكن تقصد هي تلك النظرة المسكينة المستكينة التي صوبتها إليّ، وفهمت منها لبرهة أنها ربما تستنجد بي، ولم يكن للقاء العينين العابر أن يتم، لولا هذه الإشارة المرورية العبثية، واعتيادي أن أتحين فرصة تباطؤ الطريق أو توقفه لاستراق نظرة إلى الأهرامات الرابضة في رسوخ وشموخ، مرتشفاً سنوات مجد غابرة، وكانت الجاموسة بهيكلها العملاق قد اعترضت مسار نظرتي للهرم الأكبر، فحالت بيني وبينه.
……..
أفر ـ خلال دقائق التوقف بالإشارة المرورية ـ الأخبار على هاتفي، الرئيس الأوكراني يدلي بتصريحات تناقضها يوحي بالإرباك، كان الله في عون جيشه، أتمزق على مرأى الجنود على الجبهتين بأعينهم التي تفيض بعدم فهم ما يجري، وبأمل العودة لأحضان الأمهات والأطفال والزوجات، هل تخور عزائم الجيش الأوكراني بفعل دعوة رئيسه لروسيا إلى مائدة التفاوض؟ أم يشتد عزمه على المقاومة بفعل لبس الرئيس الأفرول العسكري والنزول بنفسه للجبهة؟ يلائمه تماما زي الجندي، هو مجرد عسكري على رقعة الشطرنج، تحركها أياد عملاقة، المهم حماية الملك الحقيقي، ربما لا يدرك الممثل الكوميدي المحترف صاحب النظرة البلهاء البريئة هذه الحقيقة، ربما صدق الدور الذي أداه في المسلسل الكوميدي القديم، ويريد المضي في دور الرئيس لآخره، دور سينهيه المخرج بكلمة “فركش”، هل يعي الأموات تصفيق الجمهور لمشهد تضحية رائع؟
…………….
معتزلاً العالم القاسي بفعل إصابتي بكورونا قبل عام، توضع لي منضدة الطعام على حافة الغرفة عند الباب، وعليها قطع من اللحم، لا يستسيغ وجداني التهام كائن كان حياً، لمجرد أن نصيبه جعله في مرتبة أدنى على سلم الكائنات الحية، ظللت أياماً متألما لتسببي في اختناق نحلة وضعت عليها دون قصد كيس بلاستيك، داهمتني كورونا بعدها بأيام لتمسك بخناقي، قلت إنه ذنب النحلة المختنقة، يخلصه الإله العادل مني في الدنيا حتى لا تمسك النحلة الضحية بخناقي طالبة العدل في أمام قاضي الآخرة الجليل.
أسارع لابتلاع قطعة اللحم، وددت لو تمكنت من تحقيق حلمي القديم بأن أصير نباتياً، منذ الطفولة تتراءى لي قطع اللحم المطهوة على المائدة مثل فم حيوان حي يناشدني الرحمن ألا ألتهمه، وأتذكر مشهد جدي رحمه الله وهو يصفُّ الجواميس والأبقار التي يربيها ويطعمها من حقله ثم يعاين بيديه المعروقتين أيها أكثر اكتنازا باللحم، ليشرع في ذبحها بنفسه، وعمي الطيب الصغير ـ مات مجندا ـ يأخذ بعض القطع ليمنحها لبسطاء القرية المتحلقين حول الذبيحة، وأنا مشغول بالنظر للعينين الجاحظتين في الرأس المقطوع، اللتين تصوبان لي نظراتهما في بلاهة وبراءة، ثم أرضخ لأوامر المرحومة جدتي الصارمة بالتهام قطعة اللحم المنفصلة قبل قليل عن الرأس، أتناولها ثم أصم أذني عن صرخات الحيوان في جوفي بألا أبتلعه، أظل ألتهم قطع اللحم تحت وطأة أوامر الكبار، ثم أحاول إقناع نفسي بأن كل شيء فيه روح وحي، حتى النبات، وتذكرت قول أحد أكابر الصوفية وهو يتورع عن أكل شيء يسبح لله، ثم يلقي النبات في فمه قائلا: مسبح في مسبح.
ألتهم قطعة اللحم أمام صغاري لكي يقتدوا، لا شيء يعوض فوائد البروتين الحيواني للجسم، لا بديل نباتي عنه، أقول ذلك لابنتي الراحلة آيات التي ورثت عني تلك الآفة الإنسانية، محاولاً إقناعها بما أنا غير مقتنع به، لكن عزيمتها ـ كالعادة ـ تكون أقوى مني، فتأبى أكل اللحوم، أزورها في رقدتها الأخيرة، وأتأمل الحقائق القديمة: نحن طعام لأدنى الكائنات في سلم الكون.
………..
لهجة المذيع في الراديو تشي بالإعجاب بالرئيس الروسي.
بوتين، مرتضى، كيم جونغ اون، البغدادي، يركبون رأس السلطة ويقودون الجماهير ملبين الدعوات اللاهثة الباحثة عن بطل بلطجي، في وجه عالم غير عادل، أو حتى تلبية لسعار الوحشية في أعماقنا، يقول لي صديق ناصري أثناء انتخابات نادي الزمالك: “المنظومة الرياضية الفاسدة المختلة لا ينفع معها الأدب” يقطع حديثنا اندفاع الجماهير ناحيتنا هرباً من اشتباكات بين أنصار الفريقين المتنافسين، وسط صرخات نساء تدهسهن الأقدام الكبيرة بينما نجت أخريات من الدهس فخدشت أسماعهن المرفهة ألفاظ جارحة.
أشعر بالشفقة على أنصار الفريقين، يقال إن كلا المتنافسين مدعوم من جهة ما، وأنهما مجرد قفازين ليد خفية، لها مصالحها، البعض يفهم دوره جيداً وآخرون حالمون لا يفهمون.
أعود للبيت منهكاً، أعرف من أمن المنطقة السكنية أن رجلاً اشتبك معهم محاولاً الدخول عنوة، ملتحفاً بسطوة جهة عمله السابقة، أسأل عنه فيقال لي: بلطجي بس جدع، لو قصدته في حاجة مش هيتأخر عنك، أقول لنفسي: أي حاجة بغض النظر عن عدالتها؟
……….
تتأهب الطرقات لنقل مراكب الشمس من الأهرامات إلى المتحف المصري الكبير، حاولت ضبط موعد النقل مع وقت عودتي من أكتوبر للهرم على موعد إبحارها المهيب في أفق الدنيا، أخرت نفسي بجوار سور مدينة الإنتاج الإعلامي، ظللت أمشي ببطء حتى بلغت الإشارة المرورية التي لم أفهم أبداً ضرورة وجودها هنا، تتسابق السيارات في الطريق العريض الناعم قبيل غلقه لنقل المراكب، كنت أفضل الطريق القديم قبل هذا التطوير المتسارع الهائل، قبل سنوات كان الازدحام في الطريق الضيق يتيح لي التباطؤ بالسيارة لتأمل الأهرامات، بعض التطوير لا يلائمني، حاولت التباطؤ لأقصى مدى على الطريق السريع بعد توسعته، أتأمل الأضواء الملونة المبهرة على الأهرامات خلال عرض الصوت والضوء، انتبهت لتنبيهات قائدي السيارات، ولاحظت سيارتين تحاولان التضييق عليّ، إحداهما بلا لوحات، ناورت لئلا أضطر للتوقف في الطريق المعتم، وكان قائد السيارة التي بلا لوحات قد حاذاني في منطقة يغشاها ضوء من عامود إنارة، تقريباً في نفس المنطقة التي حجبت فيها الجاموسة عني مشهد الهرم العظيم، لاحظت شارة تدل على جهة عمله، قلت إنه والآخر الذي يحاول التضييق علي ـ إذن ـ ليسا قاطعي طريق يريدان السطو علي السيارة، فتوقفت على جانب الطريق قرب الإشارة المرورية الحاملة لكاميرا مراقبة، هذه الإشارة ـ هاهي ـ ذات فائدة.
نزل قائد السيارة، واتجه ناحيتي في عصبية، ألقى السلام منفعلاً بينما أعدت النظر ـ جالساً ـ إلى الشارة في سترته، ويدي على رقم صديق عزيز، والأخرى على زر البث المباشر على الفيسبوك، هدأ وقال كلاما فهمت منه اعتراضه على سيري المتباطئ دون داع، بينما السيارات تندفع مسرعة على الجانبين، أنهى كلامه بود ثم مضى بسلام.
……………
يهلل أصدقاء أعزاء لبوتين وآخرون متعاطفون مع أوكرانيا، أجد عقلي مع حق روسيا في ألا يقف خصومها على حافة الحدود، وقلبي مع أوكرانيا المرتعبة من جار بلطجي غير مأمون الجانب، نلنا منه في منطقتنا نصيبنا من الأذى، لو كنت أوكرانياً لتمنيت ألا أكون أوكرانيا، أغنى بلدان أوربا بالموارد والإمكانيات وأقلها نصيباً من ثروة الأمنيات ووفرة الأمان، حظ ملتبس، ومصير معلق على رغبات اللاعبين الكبار على رقعة الشطرنج.
تنجلي الأهرامات عقب تحرك السيارة النصف نقل بالجاموسة البلهاء، يهاتفني صديق منتظراً عند الشاطئ الغربي من النيل، أصل إليه في دقائق مع سيولة الطرق المرورية، أنتظره نهاية كوبري عباس، أتصفح الأخبار والتعليقات المتحيزة على الهاتف: بوتين بلطجي.. الرئيس الأوكراني مثالي مثير للإعجاب بعدم فراره وإصراره على الوجود ببلاده لآخر لحظة..أوكرانيا تحترق.. روسيا تحكمها مافيا فاسدة.. الأوكرانيون يتعرضون لعقاب مؤلم لأنهم اختاروا حق تقرير مصيرهم.. روسيا دموية.. الرئيس الأوكراني الحالم لن يغادر بلاده إلا جثة..أمريكا خائنة.. أوربا مهترئة.. العرب نفذ مخزونهم من التعاطف من كثرة نزفه على جراحهم..العالم مختل..
أنظر جنوباً ناحية النيل المنساب في سلام، وأدعو الله ألا يضطرنا البلهاء ببراءة إلى اقتراف ما لا ترضاه ضمائرنا، بينما يصرخون للعالم بأن الفراعنة عتوا وتجبروا بغير حق، وأنهم ما ارتكبوا شيئاً إلا أنهم مارسوا حقوقهم في استغلال أراضيهم طلباً للتنمية..العالم المتحضر يدين ويشجب.. شكاوى متبادلة من تخاذل العالم عن إحقاق العدل..أبكي على مشهد جندي شديد سمرة البشرة تتألم عيناه الألم الأخير في براءة وبلاهة تحت الخوذة الملطخة بالدماء أسفل السد الجديد..
- ياسر سليم يكتب: ﻋﻤﺎﺭﺓ ﺗﻴﺮﻳﻨﺞ - السبت _10 _سبتمبر _2022AH 10-9-2022AD
- ياسر سليم يكتب: الحرب الروسية الأوكرانية.. على مذبح البلاهة.. - الخميس _10 _مارس _2022AH 10-3-2022AD
- المومياوات.. معجزة بشرية أتاحتها حكمة إلهية - الأثنين _5 _أبريل _2021AH 5-4-2021AD