- ممدوح المنشاوي يكتب: حتى لا تختلط الأوراق - الجمعة _11 _يونيو _2021AH 11-6-2021AD
- ممدوح المنشاوي يكتب: على خُطَى المعتزلة والفرقِ الضالَّة!!! - الأربعاء _19 _مايو _2021AH 19-5-2021AD
- ممدوح المنشاوي يكتب: صفحات مطويات من تاريخنا المجيدأ! - السبت _8 _مايو _2021AH 8-5-2021AD
فضل كلام الله علي كلام البشر.. كفضلِ الله تعالى على البشر!! {قل لئن اجتمعت الإنس والجن علي أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا} الإسراء آيه 88
درس المستشرقون آدابَ اللغة العربية وفنونَها في محاولةٍ لإيجاد مطعنٍ علي القرآن الكريم… فارتدت سهام كيدهم إلي نحورهم، وقال قائلهم: إن القرآن علي درجة عظيمة من البلاغة التي تقصر عنها درجةُ البلاغة ذاتها!! إنه أسلوبٌ عجيب.. بلفظٍ بديع.. لمعنيً مناسبٍ.. لكلٍّ من مقامات الحديث.. دون زيادةٍ أو نقصان.. وقديما قال رائدُهم (الوليد بن المغيرة المخزومي) يصف القرآن الكريم: (إن له لحلاوة وإن عليه لطلاوة وإن أعلاه لمثمر وإن أسفله لمغدق وإنه يعلو وما يُعْلى عليه.. وما هو بقول بشر!!!).. لماذا انبهر العربُ بالقرآن وهم أصحابُ القلم وأربابُ الكلم ؟؟!!
لماذا وهم الذين ملكوا ناصية البيان حتى أقاموا أسواقاً للشعر والمُعَلَّقات؟! بادئ ذي بدءٍ، فلقد حوي القرآن الكريم ألواناً من أوجه الإعجاز (إعجازاً تنظيمياً تشريعياً.. إعجازاً علمياً تكنولوجياً.. إعجازاً عددياً…. إلخ)
ولكن كان الإعجازُ البيانيُّ اللغويُّ في القلب من كل أوجه الإعجاز!! لقد كان العرب يعرفون أنه ليس بوسع بشرٍ مهما أوتي من قوة البيان أن يبدع في غير مجال ما وقع تحت الحس والتجربة والمشاهدة (لأن فاقد الشيء لا يعطيه)، فبهرهم أن القرآن الكريمَ يتحدث في أمور الغيب – التي لم تقع تحت الحس أو التجربة أو المشاهدة – بنفس البلاغة العالية التي يتحدث بها عن عالم (الحضور والشهادة)!!! فلقد تحدث القرآنُ ببلاغة منقطعة النظير عن عالم الجنِّ والملائكة.. وعن أحوال وأهوال يوم القيامة.. وعن الجنة والنار.. وتحدث عن غيوبٍ ماضيةٍ من سير الأولين (ما كنت تعلمها أنت ولا قومك من قبل هذا) بنفس الدرجة العالية من البلاغة!! وتحدَّث أيضاً عن غيوب مستقبليةٍ في عالم الشهادة كخروج يأجوج ومأجوج وخروج الدابَّة وعلامات القيامة الصغرى والكبرى بنفس القوة والبلاغة! وغير ذلك كثير.
كان العرب يعلمون أنه ليس بوسع بشرٍ أن يبدع في جميع المجالات.. وأن الشاعر قد يجيد في لون دون غيره..فهذا امرؤ القيس يبدع في مجال وصف الحرب والنساء (مكرٍّ مفرٍّ مقبل مدبرٍ معاً.. كجلمود صخر حطَّه السيْلُ من علٍ).. وهذا زهير بن أبي سُلمي يبدع في مجال وصف أحوال المجتمع (ومن لم يذد عن حوضه بسلاحه يهدم.. ومن لا يظلم الناس يظلم).. وهذا عنترة بن شداد (وكان من فطاحل الشعراء وله معلقات) يبدع في مجال وصف اللوعة والشوق… وهذا الأعشي يبدع في وصف المنادمات والليل.. وهذا ابن العشرين «طَرفَةَ بن العبد» وقد اتخذ الشعر نعلين لشدة تمكنه من اللغة كما وصفته العرب!! وهذا النابغة الذبياني الذي وُضعت معلقاته مقياسا لجودة الشعر!! وهذا (تأبط شرا).. وهذا أمية بن الصلت.. وغيرهم وغيرهم ممن أثرَوْا حياة اللغة العربية بأشعارهم وآدابهم.. ولكن… ما تمكن أحدهم من الإبداع في جميع المجالات والميادين.. بل أعجب من ذلك.. فلقد كان العرب يعلمون أن إبداع الشاعر أو الناظم للنثر في مجاله الذي برع فيه، لا يكون جميعه علي نفس المستوي من البلاغة العالية.. فمثلا.. من أعظم أبيات الشعر التى عرفها العرب قولُ امرئ القيس:
مكر مفر مقبل مدبر معا.. كجلمود صخر حطه السيل من علٍ
القصيدة من المعلقات.. وكلها رائعة.. وهذا أروع أبياتها.. وبقية الأبيات «برغم براعتها» إلا أنها ليست علي نفس درجة إبداع هذا البيت وبراعته!! أما القرآن فلقد بهرهم وسلب عقولهم وأخذ بمجامع أفئدتهم أنه جميعُه علي درجةٍ واحدة من الإبداع والقوة البلاغية!!!
ثمَّة أمرٍ آخر كان فيصلاً في حكمهم علي القرآن بما حكم به الوليدُ بنُ المغيرة سابقا.. هذا الأمر هو سلاسةُ الانتقال من معنيً إلي آخر.. لقد كان «المُحَكِّمون» بين الشعراء في الأندية والأسواق الشعرية… يرفعون شاعراً فوق آخر بذلك المقياس (أعنى سلاسةَ الانتقال).. كانوا يعلمون أن أعظم الشعراء مهما أوتي من سحر البلاغة والبيان، فلا بد وأن يلاحظوا فجوة (ولو طفيفة) حين الانتقال من معني إلي أخر!! وتبرزُ براعةُ الشاعر في تجاوز ذلك (المطب) بأقل درجة ممكنة!!
أما القرآن.. فلقد كان له معهم شأنٌ آخر أصابهم بالانبهار والحيرة… وأعنى سلاسة الانتقال بلا أدني فجوة ؟! وليس ذلك بوسع بشر ولا بمقدوره!! في الحقيقة لوْلا «عُجْمَةُ» ألسنتنا لتلذذنا بالقرآن!!
نقلا عن محاضرتنا (الإعجاز البياني في القرآن الكريم)