- طارق البشري.. القاضي والمفكر - الجمعة _26 _فبراير _2021AH 26-2-2021AD
- أهمية مقدمات كتب التراث - الأحد _21 _فبراير _2021AH 21-2-2021AD
- الخيط الناظم في قصص سورة الكهف - الأربعاء _3 _فبراير _2021AH 3-2-2021AD
لم تكن العلاقات السياسية بين مصر وليبيا في عهد القذافي تسير سيرا حسنا بشكل منتظم ومضطرد، وإنما كان شأنها كشأن أغلب العلاقات بين الدول متذبذبة صعودا وهبوطا، شدا وجذبا، ليس لأن المصالح الحيوية بين البلدين والشعبين كانت تختلف وتتقاطع حينا وتتنافر حينا، وإنما بسبب الميول السياسية ودرجة التجانس الفكري وإن شئت فقل الأهواء والكيمياء بين نظامي الحكم. فحينما قام القذافي بانقلابه العسكري أعلن أن عبد الناصر قدوته وأنه ناصري قومي اشتراكي الهوى، ثم بعد وفاة عبد الناصر وتولي السادات وتحول بوصلة السياسة الخارجية المصرية من المعسكر الشرقي إلى المعسكر الغربي بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية بدأ الجفاء بين النظامين، ثم تحسنت العلاقة قبيل حرب ٧٣ ووقوف ليبيا إلى جانب مصر وتزويدها ببعض شحنات السلاح التي كانت ضرورية استعدادا للمعركة، وكان الوسيط في ذلك كما هو معروف أشرف مروان.
ثم بعد الحرب عاد الجفاء وتصاعد إلى حالة من العداء وبخاصة في أعقاب مباحثات كامب ديفيد وما تلاها من معاهدة السلام المصرية الإسرائيلية.
وبعد اغتيال السادات وتولي مبارك الحكم انشغل القذافي بالتوجه صوب أفريقيا وأعلن نفسه ملك ملوك القارة وبدأ يسخر من الجامعة العربية ويحوّل اجتماعاتها لمضحكة، لكن كان من سمات مبارك الأناة والحلم وطول البال، فحافظت العلاقة على وتيرة معقولة واستطاعت الدولتان خلالها تبادل المصالح، فزادت نسبة العمالة المصرية في ليبيا ونشطت حركة التجارة والنقل بعض الشيء بين البلدين، إلى أن قامت ثورة ١٧ فبراير ٢٠١١ التي نجحت في إسقاط النظام وقتل القذافي.
كانت مصر في ذلك الوقت شأنها شأن سوريا وتونس واليمن، منشغلة بثورة مماثلة ولم تكن الأمور مهيأة لترتيب أسس علاقة جديدة بين البلدين.
بعد أربع أو خمس سنوات تعثرت ثورات الربيع العربي، وتحولت في سوريا واليمن وليبيا إلى حرب أهلية ما فتح المجال أمام الأطماع الإقليمية والدولية، وظهر فراغ استراتيجي هائل في المنطقة العربية كان من الطبيعي في عالم السياسة أن تملأه القوى الأخرى، فتمددت إيران وتركيا والسعودية والإمارات وروسيا، وصادف تمددهم انحسارا للنفوذ الأمريكي وتغييرا في أولويات السياسة الخارجية لإدارة أوباما وبدأ الشرق الأوسط بأكمله يتراجع من ناحية الأهمية الاستراتيجية مقابل التحول نحو الصين ومحاولة وقف أو تبطئ تصاعدها ونموها وتهديدها للمصالح الأمريكية حول العالم.
إلى أن وصلت العلاقات المصرية الليبية إلى ما وصلت إليه اليوم. النظام القديم في مصر، نظام يوليو ٥٢ استعاد بعض توازنه بعد هزة يناير ٢٠١١، ووجد نفسه في محيط إقليمي مختلف ومضطرب، ووجد أمامه تحديات من العيار الاستراتيجي الكبير؛ نفوذا هائلا لروسيا ووجودا عسكريا ضخما لا يمكن تجاهله، ونفوذا بدرجة أقل لإيران وتركيا، وبدرجة أقل منهما للإمارات والسعودية؛ خاصة للإمارات نظرا لانشغال السعودية بالصراع على السلطة مع تقدم الملك سلمان في العمر، ثم وجد أمامه مشكلة وجودية وصلت لأعلى درجات الخطورة تتمثل في سد النهضة الأثيوبي.
هذه التغيرات الجيوسياسية والاستراتيجية الهائلة باتت تواجه مصر الدولة والمجتمع والنظام، وزاد من وطأتها تردي الأحوال الاقتصادية وتمظهراتها التي بدت في انخفاض قيمة العملة الوطنية، وازدياد رقعة الفقر، وسوء الخدمات الصحية والتعليمية، وتضخم الأسعار، وتراجع مداخيل وموارد الدولة بسبب تداعيات كورونا سواء على حركة التجارة والنقل وقناة السويس أو على السياحة وتحويلات العاملين في الخارج بعد تسريح أعداد كبيرة من المصريين في الخليج..
إزاء هذا كله؛ داخليا وإقليميا ودوليا، بات على نظام الحكم في مصر التعامل مع تلك التحديات وإيجاد سبيل لتحقيق مصلحته ومصالح البلاد، وأصبح يفكر في تحالفاته ومحاوره وداعميه ومدى قوتهم واستعدادهم للمضي معه أو مضيه هو معهم في هذا الطريق أو ذاك.
في هذا السياق يجمل بنا قراءة حاضر ومستقبل العلاقات المصرية الليبية.
ثورة ١٧ فبراير في ليبيا لم تلفظ أنفاسها بعد رغم الحرب الأهلية التي أشعلت أوارها التدخلات الخارجية. لا تزال ليبيا منقسمة وستظل منقسمة ولن يحسم طرف الصراع لصالحه عسكريا بنسبة ١٠٠% طالما أن الرأي العام الداخلي منقسم، ومشاريع وأجندات الدول الإقليمية والدولية متضاربة في هذا البلد.
فهل من مصلحة مصر الرهان على طرف لن يحقق انتصارا عسكريا وسياسيا نهائيا وحاسما يجبر الطرف الآخر على الاستسلام وإعلان قبول الهزيمة ورفع الراية البيضاء والخروج من المشهد أو الرضا بالفتات. لن يحدث هذا داخليا، ولن تسمح به القوى الإقليمية والدولية التي كما قلت لها مشاريعها المتضاربة في ليبيا؛ وعليه فإن تقديري أن صانع القرار في مصر يعرف جيدا هذا القدر من التعقيد وتشابك المصالح، وأن الحكمة تقتضي بناء على هذه المعرفة ألا يورط نفسه في مستنقع يستنزف قدراته وهو أشد ما يكون حاجةً إليها لمواجهة تنافس سعودي إماراتي وصراع إقليمي ودولي شرس.
وأن الحل الأمثل للسياسة المصرية حاليا هو مبادلة موقفها بالنسبة للملف الليبي بمكاسب في ملف سد النهضة، فتعمل على الدفع نحو حل سياسي للأزمة الليبية برعاية إقليمية ودولية، مقابل تعويضات سياسية أمريكية تتمثل في دعمٍ أكثر قوة وجدية لتليين الموقف الأثيوبي وتخفيف الضرر الذي سيلحق بمصر جرَّاء ملء خزان السد دون اتفاق قانوني ملزم.