عدم اهتمامي بالكرة فوّت علي كثيرا من حالة الجدال الساخنة المنتشرة في الأيام الماضية عن مونديال قطر!
من أهم ما اكتشفته، فيديو للإعلامي المصري محمد الباز، يتحدث فيه عن «الجريمة» التي ترتكبها قطر بما صنعته في المونديال من نشر الأحاديث وترجمتها إلى اللغات المختلفة، أو من مظاهر دينية كافتتاح المونديال بالقرآن الكريم، وتساءل مستغربا ومستنكرا: كأنها تدعو هذه الجماهير إلى الإسلام!!
ثم اهتم أن يسأل مراسله من الدوحة:
كيف وافقت الـ«فيفا» على هذا؟
ومن جانبه نقل له المراسل سخط الصحافة الغربية على هذا الوضع، ونقل له أن المسئولين في قطر لديهم «إصرار كامل على خلق هوية خاصة لمونديال استثنائي» بما شعر معه هذا المراسل أن الأمر قد تحول إلى «صراع عقائدي»!!
الحمد لله كثيرا أن المونديال قد نَظَّمته قطر
بالتأكيد تتزاحم المعاني التي يجب الإشارة إليها هنا، سأحاول أن أقول ما أريد باختصار شديد، معتمدا على ذكاء القارئ:
1- هذا مثال بسيط يوضح لك كيف كان سيكون الكفر والفجور والانحلال والإباحية لو أن كأس العالم نظمته مصر أو الإمارات أو السعودية..
ومع أن كأس العالم ليس بالتأكيد سوقا دعوية ولم تنظمه قطر بغرض الدعوة، إلا أن المتلبس بالشر والضرر ليس كرأس الشر والفساد، والواقع في الفتنة والضلالة ليس كصاحب الفتنة ورأس الضلالة!
ومن هنا، فالحمد لله كثيرا أن المونديال قد نَظَّمته قطر، لا السعودية ولا الإمارات ولا مصر ولا المغرب ولا الجزائر، بل ولا حتى تركيا التي لا يستطيع مسئولوها أن يصنعوا هذا الجوّ الحضاري والإسلامي الذي صنعته قطر.
ضرر المنافق أشد من ضرر العدو الصريح
2- هذا مثال واضح يُخبرك أيضا بأن ضرر المنافق أشد من ضرر العدو الصريح.. فهذا الكلام الذي يقوله محمد الباز،
يتردد حتى البطريرك تواضروس زعيم النصارى في مصر من قوله.
وإذا كنتَ -عزيزي القارئ- في موضع مهم في جهاز استخباري محلي أو عالمي،
وقيل لك إن محمد الباز ينوي إعلان أنه قد خرج من الإسلام أو اعتنق المسيحية،
فستجد نفسك مسارعا إلى منعه من ذلك بكل قوة، لأن أداءه لمهتمه وهو تحت اسم «محمد الباز» المسلم سيكون أفضل بكثير من أن لو أعلن إلحاده أو دخوله المسيحية.
بقدر قليل من توسيع الصورة وتكبير المثال، ستفهم بوضوح فائدة ما يسمى «الاحتلال بالوكالة»،
فائدة «العملاء الوطنيين»، فائدة أن يحكم المصريين مصري، والفلسطينيين فلسطيني، والسوريين سوري.. إلخ!
العميل أكثر كفاءة وأقل تكلفة من الاحتلال الأجنبي المباشر الصريح..
الوحشية والإجرام والإفساد التي ارتكبها عبد الناصر والسيسي وحافظ وبشار والقذافي وعسكر الجزائر.. إلخ،
هي وحشية عجز عنها الاحتلال الأجنبي الصريح في عصر تفوقه العسكري الكاسح!
وبينما كان الإنجليز والفرنسيون والطليان مضطرين إلى احترام المشاعر والرموز الدينية، إذا بأمثال ابن زايد وابن سلمان يوغلون في تدمير هذه المشاعر والقيم الدينية بما يندهش له الأجانب أنفسهم!!
ماذا لو نظمت مصر المونديال؟
3- لو أن مصر نَظَّمت هذه البطولة، لكانت ستشحنها بالرموز الوثنية الفرعونية (لمن يتذكر: كان شعار حملة مصر لتنظيم كأس العالم في 2010 عين حورس الفرعونية)،
وسيكون حفل افتتاحها للبطولة زاخرا بالمواكب الفرعونية والثياب الفرعونية والتقاليد الفرعونية..
وكنا سنرى الباز وأمثاله مندفعين في تأييد هذه المظاهر والدعوة للاستكثار منها،
لكي يعرف العالم كله «حضارة مصر» و«عراقة مصر» و«تاريخ مصر»!
ليست المشكلة إذن في الإعلان عن الهوية، بل المشكلة في الإعلان عن هوية محددة هي الهوية الإسلامية..
وقبل أقل من سنة، كان السيسي يفتتح متحفا فرعونيا ضخما، ويقيم عرضا فاخرا لمواكب فرعونية من قلب القاهرة،
وعاش الإعلام المصري حالة من الانتشاء والزهو الكاذبة، وكانت أياما من الوطنية الزائفة التي يحتفى فيها بالأموات ويُدفن فيها الأحياء.
الإعلان عن الهوية،
ومحاولة تعريف الناس بها، أمر فطري طبيعي بدهي، يفعله الإنسان تلقائيا قبل حتى أن يفكر فيه، وإنما هو يفكر في تجويده.. وكذلك تفعله الدول!
إذا زرْت عالِما فستجد بيته مشحونا بالكتب، وإذا زرت فنانا فستجد حوائط بيته حافلة باللوحات، أو حافلة بالتماثيل والتحف والنوادر،
وإذا زرت رياضيا فستجد أرفف مكتبه زاخرة بالكؤوس والمجسمات والجوائز والميداليات!! يعلن المرء عن هويته ويفتخر بها دون أن يشعر..
فإذا شعر أنه بحاجة إلى إبرازها تأنق في إظهارها وتحسينها وتجويدها ليكتسب مزيدا من احترام الناس له وتقديرهم إياه!
وليس في هذه الدنيا أحدٌ بلا هوية، حتى الملحد الذي أفرغ نفسه من العقيدة، هو ينتمي إلى حضارة بعينها، طوعا أو كرها،
فما من أحد يستطيع الانفلات من بيئته! أو من الثقافة الغالبة عليه!
الملحد في زماننا يرتدي الثياب الغربية، لأنها الحضارة المتفوقة الغالبة، ولا يصطنع لنفسه نمط حياة جديدة لأنه مستقل في فكره..
مثلما كان الملحد قديما يرتدي الثياب العربية والعمامة أيضا لأنها كانت بيئته وحضارته!
إبراز الهوية العربية الإسلامية أهم عوامل نجاح مونديال قطر
فكرة أن نكون مخلصين للرياضة وحدها، ونجرد هذا الحدث الذي يقام في أرضنا من أي هوية..
هذه الفكرة ليست فحسب مجرد فكرة سخيفة وتافهة ومعبرة عن هزيمة نفسية هائلة، بل هي في واقع الأمر فكرة مستحيلة، لا يمكن أن تكون.
إذا لم تهتم قطر بإبراز الهوية العربية الإسلامية، فإنها كانت ستذهب إلى تنظيم حدث مغلف بالهوية الغربية الغالبة على هذا العالم،
سيكون حدثا يشبه نفس الحدث الذي يقام في ألمانيا أو أمريكا أو بريطانيا أو فرنسا!
وفي هذه الحال فإنه سيكون نسخة باهتة، بل نسخة عبد يحاول تقليد سيده،
عبد قد انخلع من نفسه وذاته وهويته وحضارته وذهب يحاول أن يثبت لسيده أنه قد «تحضر» بما فيه الكفاية وأنه استطاع أن يكون «مثله»!
وهذا ما كان سيفعله ابن زايد أو ابن سلمان أو السيسي أو أمثالهم إذا أقيمت هذه البطولة في ديارهم، قبل أن تنظمها قطر..
أما الآن فقد فرضت قطر نوعا من الإلزام الأدبي لكل دولة عربية أو إسلامية ستنظم بطولة على أرضها فيما بعد..
ستكون نموذجا ملهما أو محرجا لكل من سيفعلها، ستنعقد المقارنة حتما، ولكن يكون تنظيم مثل هذه الفعاليات نسخة غربية تامة فيما بعد.
كرة القدم مخدرات هذا العصر
4- كل هذا الذي قلْتُه لا ينفي ولا يتعارض مع فكرة أن كرة القدم مخدرات هذا العصر، وأن أمتنا المستضعفة يجب أن تترفع عن هذا السفه والهذر،
وأن الأوقات والأموال والعقول يجب ألا تضيع في هذه التفاهات، وأن الكرة لم تعد مجرد لعبة ولا ترفيه،
بل صارت صناعة رأسمالية استهلاكية مضرة وخطيرة، وصارت من أدوات الدولة في تدجين الشعوب وتغييبها عن حقائق واقعها وعن الجادّ من أحوالها..
إن ظواهر عصرنا مركبة ومتداخلة، وأسوأ ما يبْتَلى به كاتبٌ أن يقرأ له سطحيٌّ لا يعقل مراتب الكلام ولا موضع المعالجة،
فيذهب يهدر ويهذر ويسخر دون أن يكلف نفسه عناء الفهم والتفكير.
- محمد إلهامي يكتب: تقدم الدراسات التاريخية خطر على الوطنية - الأثنين _23 _يناير _2023AH 23-1-2023AD
- محمد إلهامي يكتب: «عنزة وإن طارت» - الجمعة _20 _يناير _2023AH 20-1-2023AD
- محمد إلهامي يكتب: وحشية الأنظمة.. وشراسة المعركة بين الحق والباطل - الأثنين _16 _يناير _2023AH 16-1-2023AD