- محمد إلهامي يكتب: كيف يستفيد الأمريكان من الاختلافات بين أعدائهم؟ - الثلاثاء _19 _يناير _2021AH 19-1-2021AD
- حملة مقاطعة المنتجات الفرنسية - الخميس _31 _ديسمبر _2020AH 31-12-2020AD
- رحل «حاتم علي» قبل أن تكتمل «السلسلة الأندلسية» - الأربعاء _30 _ديسمبر _2020AH 30-12-2020AD
بمناسبة لقاء شيخ الأزهر مع وزير الخارجية الفرنسي، أنقل هذه الأحداث من كتاب «ودخلت الخيل الأزهر» لأستاذنا الراحل الكبير جلال كشك، في الفصل الذي عقده عن ثورة القاهرة الأولى، والتي اقتحم الفرنسيون الأزهر بعدها بخيولهم، وتطرق فيه لمذبحة يافا التي نفذها نابليون وجنوده.
ومن نافلة القول أن هذا كله مجرد شذرة مما وقع وقتها، والذي هو كله شذة من تاريخ فرنسا مع المسلمين
“استمر ضرب البنادق الموجه للبطاريات الفرنسية من مآذن جامع السلطان حسن وقبته طوال العصر، ولما أقبل المساء وأحدثت القنابل فعلها أحدقت ثلاث أورط من المشاة و300 فارس بالأزهر، وتقدم رجالها لا يعترض ضربهم وسيوفهم معترض، ودخلوا الجامع عنوة”.
“وهم راكبون الخيول، وبينهم المشاة كالوعول، وتفرقوا بصحنه ومقصورته، وربطوا خيولهم بقبلته، وعاثوا بالأروقة والحارات، وكسروا القناديل والسهَّارات، وهشموا خزائن الطلبة والمجاورين والكتبة، ونهبوا ما وجدوه من المتاع، والأواني والقصاع، والودائع والمخبآت بالدواليب والخزانات، ودشتوا الكتب والمصاحف، وعلى الأرض طرحوها، وبأرجلهم ونعالهم داسوها، وأحدثوا فيه وتغوَّطوا، وبالوا وتمخطوا، وشربوا الشراب وكسروا أوانيه، وألقوها بصحنه ونواحيه، وكل من صادفوه به عرُّوه، ومن ثيابه أخرجوه”([1]).
نعم ويل للمغلوب، وكان هذه هي أول مرة في التاريخ يُقتحم فيها الأزهر على هذا النحو، وتهدر كرامته بهذا الأسلوب البربري، الذي لا يشبهه إلا الاحتلال الصليبي لبيت المقدس في القرن الحادي عشر، ولا يفوقه إلا إحراق الاحتلال الصهيوني للمسجد الأقصى في القرن العشرين.
وفي كتاب “نقولا الترك” أن نابليون رفض الجلاء عن الأزهر، وأن هذا الاحتلال قد أحدث أثرًا فظيعًا في الجماهير المصرية وقياداتها (وما زال العامة في مصر حتى الآن يضربون المثل على أبشع ما يمكن أن يقع بقولهم : “الخيل دخلت الأزهر”).
كان الأزهر كما قلنا هو مركز قيادة وزعامة الأمة المصرية، ورمز عزتها وسيادتها، واقتحامه وإهانته على هذا النحو هو إهانة للأمة أو إعلان لهزيمتها على يد غازٍ بربري.. فهو ليس مجرد مسجد.. فالفرنسيون هدموا عدة مساجد وضربوا الأزهر من مسجد السلطان حسن، الذي احتلوه وركبوا المدافع في مآذنه.. ولا شك أن الاعتداء على حرمة المساجد أثار المصريين وأهان مشاعرهم، ولكن الأزهر أكبر من ذلك.. وباقتحامه على هذا النحو، سقط كل زيف حاول الغزاة أن يستروا أهدافهم خلفه.. وأصبحوا وجهًا لوجه ضد الأمة.. ضد الشعب المصري.. فمهما تكن خسائر ثورة القاهرة الأولى، فإن مكسبها الأعظم هو كشفها طبيعة الصراع المصيري بين الغزاة والأمة.
وقد سجل “نقولا الترك” أن “الشيخ محمد الجوهري” (وقد عرفنا مكانته وزعامته في الفصل الأول) دخل على نابليون قائلًا: “ما قابلت حاكمًا عادلًا كان أو ظالمًا، والآن قد أتيت متوسلًا إليك أن تأمر بإخراج العسكر من الجامع الأزهر. فقبل نابليون رجاءه وأمر بإخراج الجنود من الأزهر”.
رحم الله الشيخ “الجوهري”، عرف أن كرامة الأمة وكرامة رموزها ومقدساتها.. فوق الكرامة لفردية. وعرف أن مصر قد احتلها الأجنبي وأصبحت مستعمرة، وأنه لم يعد بالإمكان -كما كان الحال- أن يترفع قادة الشعب عن زيارة الحاكم. وغفر الله للشامتين بنا الذين يعتبرون أن مصر تحررت في هذه الفترة بالذات وبدأت تمارس الحكم الوطني!
وكانت نية نابليون متجهة إلى هدم الجامع الأزهر، فقد أصدر الجنرال برتييه رئيس أركان الحرب تعليمة (وهي صادرة بأمر القائد العام إلى الجنرال بون بتاريخ 23 أكتوبر): “يهدم الجامع الأكبر ليلًا إذا أمكن، وترفع الحواجز والأبواب التي كانت تسد الشوارع”([2]).
ثم بدأت “العدالة” الثورية الفرنسية في الاقتصاص من “الثوار البلديين”! سواء في القاهرة أو في الأقاليم: “بعقوبات رهيبة، شرفتنا ورفعت قدرنا”([3]). كما وصفها تتري فرنسي!
ومن أجل المزيد من التشريف ورفع القدر أصدر نابليون للجنرال برتييه: “تفضل أيها المواطن القائد بأن تأمر قومندان القاهرة، بقطع رءوس جميع المسجونين الذين أُمسكوا وبيدهم سلاح. فليُؤخذوا إلى شاطئ النيل بعد هبوط الظلام، ولتُلقَ جثثهم المقطوعة الرءوس في النهر”([4]). وفضلًا عن هؤلاء المسجونين، أُعدم في القلعة ثمانون عضوًا من “ديوان الدفاع” (الذي تزعم الثورة)، وهكذا نجد جهرًا بالعفو عن الأبرياء وإعدامًا للمعارضين في الخفاء، وتحت جنح الظلام، وهي سياسة خليقة بأن تحظى برضاء ميكافيللي”([5]).
واستمرت عملية “التشريف ورفع القدر”، فتم قطع رؤوس ستة من المشايخ الذين اتُّهموا بقيادة الثورة، والمؤرخون الذين يتشدقون بشكلية محاكمة “سليمان الحلبي” لا يكلفون أنفسهم عناء تبرير إعدام هؤلاء المشايخ بلا محاكمة معروفة ولا وقائع.. بل إعدام شيخ طائفة العميان بتهمة القيام بعمل مسلح ضد المدفعية الفرنسية. بل ولا يخجل إمام من أئمة المدرسة الاستعمارية مثل “هيرولد” من تبرير جريمة نابليون، بأن يخلع على هؤلاء المشايخ أوصافًا تحريضية مثل “لا جدال في أن هؤلاء الرجال كانوا أشد رجال الدين المسلمين تعصبًا وتهييجًا للجماهير”([6]).
رجال دين.. متعصبون … هه !
“وفي الصحف الفرنسية أن المشايخ الذي أُعدموا لقيادة ثورة القاهرة الأولى كانوا ستة، وليس خمسة كما قال الجبرتي”([7]).
وهذا يعزز الظن بأن الجبرتي كان يفتقر إلى المعلومات الكافية عن التنظيم الثوري وأشخاصه.
أما الشيخ عبد الشرقاوي رئيس الديوان (كما يعرفه الرافعي) فقد ذكر أن العلماء الذين أُعدموا هم ثلاثة عشر عالمًا. “ودخلوا بخيلهم الأزهر، ومكثوا فيه يومًا وبعض الليلة الثانية، وقتلوا فيه بعض علماء، ونهبوا منه أموالًا كثيرة. وسبب وجودها فيه (أي الأموال) أن أهل البلد ظنوا أن العسكر لا يدخله، فحولوا فيه أمتعة بيوتهم، فنهبوها ونهبوا أكثر البيوت التي حول الجامع الأزهر، ودشتوا الكتب التي في الخزائن، يعتقدون أن بها أموالًا. وأخذ مَن كان معهم من اليهود الذين يترجمون لهم كتبًا ومصاحف نفيسة”([8]).
وكانت هذه هي أول مرة يُعدم فيها مشايخ الأزهر كالمجرمين.. أول مرة يتجرأ فيها حاكم على إعدام قادة الأمة.
أما المشايخ الذين أُعدموا.. فرغم تباين عواطف الجبرتي نحوهم، وهو الصادق مع نفسه إلى أقصى حد، الموضوعي في الوقت نفسه.. إلا أن عرضه لتاريخهم ومعلوماته عن شخصياتهم، تضعنا أمام صفة مشتركة فيهم جميعًا هي: “الجماهيرية”، بكل ما يحيط بهذه الصفة من مواهب وصفات مكتسبة، وغوغائية في بعض الأحيان، إن لم يقل البعض في أكثرها! المهم أنهم كانوا طرازًا خاصًّا من المشايخ، يستطيعون مخاطبة الجماهير وتحريكها.. بل وتنظيم الجماهير.
فالشيخ “العلامة الفاضل الفقيه الشيخ أحمد بن إبراهيم الشرقاوي الشافعي الأزهري”.. كان “يأتي إليه الفلاحون من جيرة بلادهم بقضاياهم وخصوماتهم وأنكحتهم، فيقضي بينهم ويكتب لهم الفتاوي في الدعاوى التي يحتاجون فيها إلى المرافعة عند القاضي، وربما زجر المعاند منهم وضربه وشتمه، ويستمعون لقوله ويمتثلون لأحكامه. وربما أتوه بهدايا ودراهم، واشتُهر ذكره. وكان جسيمًا عظيم اللحية فصيح اللسان، ولم يزل على حالته حتى اتُّهم في فتنة الفرنسيس المتقدمة. ومات مع من قُتل بيد الفرنساوية بالقلعة، ولم يُعلَم له قبر”.
أما “الشيخ الإمام العمدة الفقيه الصالح القانع الشيخ عبدالوهاب الشبراوي الشافعي الأزهري” “فكان حسن الإلقاء سلس التقرير جيد الحافظة جميل السيرة.. حتى اتُّهم في إثارة الفتنة، وقُتل بالقلعة شهيدًا بيد الفرنسيس”.
و”الشاب الصالح النبيه الفالح الفاضل الفقيه الشيخ يوسف المصيلحي الشافعي الأزهري.. كان مهذب النفس لطيف الذات حلو الناطقة مقبول الطلعة خفيف الروح”.
“والعمدة الشهيد الشيخ سليمان الجوسقي شيخ طائفة العميان”.
وهو شخصية ديكنزية أو دستوفسكية، استطاع أن ينظم العميان، ويجعل منهم قوة إرهاب تُخشى صولتها في القاهرة والأرياف. حتى أصبح بفضل هذا التنظيم المرعب من “أعيان الصدور المشار إليهم في المجالس، تُخشى سطوته وتُسمع كلمته، ويقال: قال الشيخ كذا وأمر الشيخ بكذا.. ولم يزل حتى حمله التفاخر في زمن الفرنسيس على توليه كبر إثارة الفتنة، وقُتل فيمن قُتل بالقلعة ولم يُعلم له قبر”.
وإلى جانب الجوسقي الإرهابي نجد الغوغائي: “الأجلّ المفوّه العمدة الشيخ إسماعيل البراوي بن أحمد البراوي الشافعي الأزهري، كان قليل البضاعة، إلا أنه تغلب عليه النباهة واللسانة والسلاطة والتداخل، وذلك هو الذي أوقعه في حبائل الفرنساوية، وقُتل مع من قُتل شهيدًا ولم يُعلم له قبر. وهو ابن أخي الشيخ عيسى البراوي غفر الله لنا وله”([9]).
لقد كشفت ثورة القاهرة ودماء الشيوخ الحقيقة الاستعمارية للوجود الفرنسي، وكشفت عن بربرية ووحشية الغزاة الذين طالبوا بأن “جميع الذين شهدت عيونهم الجنود الفرنسيين يستسلمون. كان يجب أن يُعدموا دون استثناء([10])”([11]).
أحس الفرنسيون المنتصرون أن هيبتهم الاستعمارية قد تحطمت. وأن الأسطورة التي نسجتها هزيمة المماليك وجبنهم وهروبهم.. زالت بفضل مقاومة شعبنا وتحت قيادة شيوخه، فوقفة الأزهر والأحياء الشعبية أثبتت أن الفرنسيين ليسوا فقط قابلين للقتل، بل وأيضًا يحبون الحياة أكثر من شرف الراية المثلثة الألوان، إلى حد أنهم يرفعون أيديهم ويستلمون لـ”شرقي مسلم”! يحتلون بلاده ويتفوقون عليه تكنولوجيًّا.. إذن فهزيمتهم ممكنة وجلاؤهم محتوم، واستقلال بلادنا بحاجة إلى ضربات جديدة مريرة، ولكنها ضرورية وممكنة ومثمرة، فما لا يزيد ينقص كما يقول “نقولا الترك”: إن الناس “فهموا جيدًا أنه انقطع أملهم (أي أمل الفرنسيين) من إمداد يأتيهم من بلادهم، فقالوا في ذواتهم نحن نضاضدهم ونحاربهم، ورويدًا رويدًا يخلصون، لأن الذي لا يزيد ينقص”، لذلك اقترح الثوريون الفرنسيون إعدام كل مصري رأى السوبر مان الأوروبي في لحظة ضعف واستسلام!
واستمرت عملية “التشريف ورفع القدر” و”بعث القومية المصرية”، فكتب نابليون لرينيه يقول: “في كل ليلة نقطع حوالي ثلاثين رأسًا، أكثرها لزعماء الثورة، وفي اعتقادي أن هذا سيعلمهم درسًا نافعًا”([12]).
وكما لم يتعلم نابليون.. لم يتعلم شعبنا، فقبل انقضاء عام واحد كان نابليون قد غادر مصر إلى غير رجعة، وكانت مصر قد ثارت ثورتها الثانية الأعنف والأقوى.
وينقل الرافعي عن المراجع الفرنسية أن الكثير من المتهمين قد أُعدموا سرًّا (بلا محاكمة) بل يثبت الرافعي أن هؤلاء المتهمين قد قتلو بحد السنك”([13]).
ولنا أن نتخيل -إن تحملت أعصابنا- كيف تم هذا الإعدام، وفرصة الاختيار أمامنا ليست واسعة، فالسنكي إما أن يذبح كما تذبح الخراف، أو يقتل طعنًا في الجسد حيثما اتفق، في إنسان مدني أعزل أسير في يد جيش منتصر!! بل وهذا المذبوح شيخ في الأزهر، أو سيدة باسلة هبت تدافع عن وطنها. إنها حالة وحشية وكافية لفضح أي ثرثرة عن دور تحريري أو تحضيري لجيش الاحتلال “الثوري” هذا.
قال المسيو “بوريين”([14]) سكرتير نابليون الخاص في مذكراته: “سيق المسجونون إلى القلعة، وكنت أتولى في مساء كل يوم كتابة الأوامر القاضية بإعدام اثني عشر سجينًا كل ليلة، وكانت جثث القتلى تُوضع في زكائب وتغرق في النيل، واستمر ذلك ليالي عديدة، وكان كثير من النساء ممن نُفذ فيهن أحكام الأعدام الليلية”.
وهكذا نرى أن الدور “التحريري” الذي ينسبه مؤرخو المدرسة الاستعمارية إلى جيش الاحتلال الفرنسي بالنسبة للمرأة المصرية، لم يكن يشمل كفاحها من أجل التحرر الوطني ولا حتى من أجل تخفيف الضرائب. بل هو لا يتعدى خصرها، وإلا لرحب الحكم الثوري “بانطلاق” المرأة من “عقالها” واشتراكها في الثورة.
وإذا فهمنا دوافع جيش الاحتلال والسلطة الحاكمة في إعدام النساء الثائرات.. فأي عذر وأي منطق يخفي عار مَن يتصدون اليوم لتزوير تاريخ هذا الشعب، فيجعلون من مظاهرة تطالب بفتح الحمامات([15])، أو الخروج مع العسكر الفرنسيين في ثياب خليعة، وتَهَتُّك خلقي، بداية حركة تحرير المرأة! ويغفلون عن عمد اشتراك المرأة المصرية في أعمال المقاومة في الريف المصري، واشتراكها في قيادة الثورة بالقاهرة، على نحو دفعت معه حياتها ثمنًا لهذا الاشتراك. فأُعدمت قيادة الثائرات بحد السناكي في القلعة، أو أُغرقن في النيل!
أين يمكن أن يبحث المؤرخ الشريف عن قيادة الحركة النسائية.. وطلائع تحرير المرأة.. في سجن القلعة بين النساء الثائرات ينتظرن الإعدام بسناكي جيش الاحتلال.. دون أن يسجل تاريخ الحملة الفرنسية حادثة انهيار واحدة للمجاهدات الباسلات؟ أم يبحث عن هذه القيادة وهذه الطلائع في خمامير أشباه “برطلمين”، وفي فراش جنود الاحتلال يقودهن أمثال “يعقوب”؟! على أية حال فإن ذلك المفهوم يلقي الضوء على طبيعة مفهومهم “لتحرير” المرأة.. -سنناقش ذلك بالتفصيل- المهم أن هذه السطور ليست إلا تحية عابرة للمجاهدات، جداتنا الباسلات اللاتي لم يخفهن نابليون ولا جيشه، بل اشتركن في تنظيم الثورة وشنها .. يقول الرافعي:
“وقد أسرف الفرنسيون في القتل (بعد إخماد ثورة القاهرة الأولى) ولم تأخذهم رحمة حتى بالنساء، فقتلوا كثيرًا منهن، وهذا من أفظع ما سُمع به من التنكيل وسفك الدماء”.
ومن أجل المزيد من أعمال التشريف ورفع القدر انطلقت قوات نابليون تنهب وتذبح العرب على طول الطريق من العريش إلى عكا..
فبعد معاهدة لم تحترم مع حامية العريش وبعد سلب ونهب غزة وقضاء يومين “مع المسيحيين في الرملة”.. أتم جيش “غلاة الجمهوريين” فتح يافا بنفس الأسلوب الذي تم به فتح القدس منذ ثمانية قرون! بل وبنفس الوصف “الشاعري” الذي تتحدث به كتب التراث اليهودي عن المعارك “الظافرة” والأعمال “النبيلة”، التي قام بها جيش إسرائيل بقيادة مجرم الحرب يهوه:
“وحالما استولى هؤلاء الجنود البواسل على المدينة ودخلوها، أعملوا السيف في نحو 2000 جندي من الحامية، كانوا يحاولون التسليم، وراح الفرنسيون يقتلون أعداءهم كالمجانين طوال ذلك المساء كله، والليل كله، وفي صباح الغد، فالرجال والنساء والأطفال والمسيحيون والمسلمون، وكل من له وجه إنسان سقط صريع جنونهم، كما قال “مالو”، الذي ما زالت الصفحات التي كتبها في وصف هذا المشهد البشع تتجاوب بشعور الفزع والخزي.. وفي يافا كان النهب والسلب وشق البطون وهتك أعراض البنات وهن مازلن في أحضان أمهاتهن المائتات”.
“كل هذا، وشر من هذا وقع في يافا في 7 و8 مارس… أما نابليون فكان تعليقه الهادئ: “بلغت سورة الجند قمتها فأعملوا السيف في كل إنسان، وقاست المدينة بعد نهبها جميع الأهوال التي تقاسيها مدينة مقتحمة”([16]).
ونابليون لم يخطئ في اعتبار ما جرى في يافا قانونًا عامًّا بالنسبة لسلوك الحضارة الغربية.. ولكننا -وبكل تواضع- نرفض اعتبار ذلك السلوك البربري، قانونًا عامًّا للسلوك البشري، وبالذات، فإن حضارتنا أثبتت العكس.. حضارتنا عندما دخلت ذات المدن لم ترتكب هذه الأعمال.. وكان الفارق مجرد 12 قرنًا.. إلى الوراء!
وإذا كان ذبح أهل يافا بالسيف لا يستوقف المؤرخين الغربيين كثيرًا، لانشغالهم بما يسمونه “مذبحة يافا”.. فإن هذه المذبحة بدأت بـ”اثنين من ياوران بونابرت هما “بوهارنيه” و”كروازييه”، أرسلهما “نابليون” إلى المدينة ليريا ما الذي يمكن عمله لإعادة النظام إلى بروعها، وناداهما الجنود والترك من نوافذ القلعة بعد أن تبينوهما من حزاميهما العسكريين. وصاح الترك بأنهما على استعداد للتسليم إذا وُعدوا بألا يُعاملوا كما عُومل بقية أهل يافا. وأعطى الشابان على مسئوليتهما تأكيدات شفوية بأن رجال الحامية لن يُقتلوا، وعلى هذا الوعد خرج الجنود وسلموا سلاحهم. فلما رأى “بونابرته” ياوريه يعودان مع بضعة آلاف من الأسرى اصفرَّ وجهه وقال ساخطًا: “ماذا يريدانني أن أفعل بهم؟ ما هذا الذي صنعاه”([17]).
وبقية القصة معروفة وشائعة؛ إذ أمر نابليون بذبح الثلاثة آلاف.. الأسرى العزل الذين مُنحوا أمانًا باسم الشرف الفرنسي.. ولكن في حضارة لا تؤمن بأن أفرادها “سواسية كأسنان المشط يسعى بذمتهم أدناهم” نُفذ “الإعدام بدقة تامة” “ومن المسلم به أن 2500 شخص قُتلوا لا لضرورة قاهرة ، بل تحقيقًا لراحة وإحداثًا لتأثير متعمد” .
ويترك لنا الميجر “ديتروا” كشف حساب كذلك الذي نجده في أوراق ربة بيت مدبرة، أو في دفتر توفير طالب نجيب.. ففي حسابات الميجر الفرنسي نجد هذه الأرقام:
في 7 مارس مات أثناء الهجوم أكثر من 2000 تركي. في 8 مارس رمي بالرصاص 800 تركي. وفي 9 مارس رمي بالرصاص 600 تركي. وفي 10 مارس رمي بالرصاص 1041 تركيًّا. الجملة: 4441 تركيًّا.
وكتب المواطن “بيروس” إلى أمه: “إن قيام الجنود الحانقين بعد اقتحام مدينة والاستيلاء عليها عنوة بأعمال السلب والنهب والحرق والتقتيل كيفما اتفق.. أمرٌ تقتضيه قوانين الحرب. والإنسانية تسدل قناعًا على هذه الفظائع. ولكن صدور الأمر بعد انقضاء يومين أو ثلاثة على الهجوم، وبعد أن تهدأ سورة الغضب، في وحشية هادئة، بقتل 3000 رجل استسلموا لنا بسلامة نية! تلك جريمة بشعة ستشجبها الأجيال القادمة ما في ذلك ريب… أن نحو 3000 رجل ألقوا سلاحهم، فسيقوا على الفور إلى معسكرنا، وفصل عنهم بأمر القائد الأعلى المصريون والمغاربة والأتراك.
“وفي صباح اليوم التالي أُخذ المغاربة جميعهم إلى شاطئ البحر، وبدأت كتيبتان في رميهم بالرصاص، وكان أملهم الوحيد في النجاة هو أن يلقوا بأنفسهم في البحر، فلم يترددوا، وحاولوا كلهم الهرب سباحة، فضُربوا بالرصاص على مهل، ولم تمضِ لحظة حتى اصطبغ ماء البحر بدمائهم. وانتشرت جثثهم على سطحه. وأسعد الحظ نفرًا قليلًا فوصلوا إلى بعض الصخور، ولكن الأوامر صدرت للجنود باقتفاء أثرهم في قوارب والإجهاز عليهم. أما وقد تم إعدام هؤلاء الرجال فقد رجونا صادقين ألا تتكرر هذه الجريمة وأن يُعفي الأسرى الباقون من القتل.. ولكن سرعان ما خاب رجاؤنا حين اقتيد 1200 مدفعي تركي في اليوم التالي ليُعدموا، وكانوا قد جُوّعوا يومين أمام خيمة الجنرال بونابرت. وصدرت التعليمات المشددة للجنود بألا يسرفوا في الذخيرة، فبلغت بهم الوحشية أن أعملوا فيهم الطعن بالسنكي.. وقد وجدنا بين الضحايا أطفالًا كثيرين تشبثوا -وهم يموتون- بآبائهم. وسُيعلِّم هذا المثال أعداءنا أنهم لا يستطيعون الركون إلى صدق نية الفرنسيين، وسيقع دم هؤلاء الآلاف الثلاثة الضحايا على رءوسنا إن عاجلًا أو آجلًا”([18]).
ويكشف “هيرولد” دجل نابليون، والتناقض الصارخ بين أقواله وأفعاله عندما يقول: “كانت فرقة الساحل الرهيبة لا تزال تواصل مهمتها حين أصدر بونابرت في 9 مارس منشورًا لأهالي فلسطين يقول فيه “الزموا الهدوء في بيوتكم.. وأنا أضمن سلامة الجميع وحمايتهم. وسيكون الدين على الأخص موضع الحماية والاحترام لأن جميع الطيبات من عند الله والنصر من عند الله “.
وفي اليوم نفسه كتب إلى الجزار يقول “ما دام الله يهبني النصر فإني أحب أن أحذو حذوه تعالى، فلا أكون شفيقًا رحيمًا بالشعب فحسب؛ بل بحكامه أيضًا”. والخطاب دعوة للتسليم.
“ومن المؤن التي استولى عليها الفرنسيون في يافا 400000 جراية من البسكويت و 2000 قنطار من الأرز. وقد نهب الجنود أكثر من هذا كثيرًا قبل أن يتمكن القومسير من الاستيلاء عليه، ولكن الأسرى وجب ضربهم بالنار لأنه لم يمكن توفير الطعام لهم”!
“وفي 8 مارس وهو اليوم الثاني من أيام المذبحة، أرسل الله -الذي من عنده تأتي الطيبات- الطاعون على الجيش الفرنسي وصبّه على رءوسهم بسخاء”([19]).
ويتساءل مؤرخ سيرة نابليون عن نوعية هذا الرجل الذي “أمر يومًا في هدوء بقتل 1041 شخصًا بالسناكي ليحدث ضربًا من التأثير، وأتى في اليوم التالي بنفس الهدوء عملًا يحجم عنه أعظم القديسين” (يقصد زيارة نابليون لمستشفي الجنود الفرنسيين المصابين بالطاعون وتطوعه لحمل جندي مصاب إصابة فادحة واضحة دون أن يتقزز أو يخاف من العدوى) ([20]).
أما نحن فلا نجد أي حيرة إلا إذا سمحنا لأنفسنا بالدهشة، من إقدام المستر “هيرولد” على ذبح الدجاج وصيد العصافير والتهام شرائح اللحم الذي يعرف أنها انتزعت من أجساد كائنات حية، وترقرق الدمع في عينيه إذا ما رأى طفلًا يتألم من حذاء ضيق! لا تناقض ولا حيرة .. إن ممثلي الحضارة الغربية لم يحسوا أبدًا بأن الكائن الملون مكتمل الإنسانية، ومن ثم فذبحه لم يشكل أبدًا جريمة إنسانية! ولا نفي عن الذابحين رقة مشاعرهم، ولا شكك في حسن سلوكهم البشري! بل إننا نجد صورة نموذجية لهذا التفكير الذي يدين قتل الهمج للبشر، ويفخر بإبادة المتمدينين للهمج الذين هم نحن.
نجد هذه الصورة في مذكرات مدرس، كهل، في إحدى قرى فرنسا يصف فيها، هذا المدرس الفاضل، ذكرياته في الشرق.. إحدى المعارك التي دارت على شاطئ طبرية، حيث كان “الهمج” على وشك الانتصار على قوات كليبر، عندما خف نابليون إلى المعركة، وقلب الوضع، وحول هذا التطور يكتب “ميديه” في شيخوخة هادئة: “تذكر أيها القارىء –ما قلته لك- إننا كنا نموت ظمأ. ولكن ظمأنا للانتقام أطفأ ظمأنا للماء، وألهب ظمأنا للدماء.. والواقع أننا رحنا نخوض إلى خصورنا مياه هذه البحيرة التي كنا نشتهي أن نشرب منها قدحًا قبل لحظات. غير أننا لم نعد نفكر في الشرب. بل في القتل، وفي صبع البحيرة بدماء هؤلاء الهمج الذين كانوا يطمعون منذ لحظة في قطع رءوسنا وإغراقنا في البحيرة التي أُغرقوا فيها هم، والتي امتلأت بجثثهم”.
بل لعل هذه التفرقة بين مشاعر الإنسان شمال البحر الأبيض، وآلام الإنسان جنوبه، هذه التفرقة التي تميز الحضارة الغربية، تحمل الجواب على سؤال هيرولد، الذي يبدو في تساؤله أكثر سذاجة من سذاجة شيوخ الأزهر المزعومة!.. فهو عندما يناقش واقعة أمر نابليون بتسميم حوالي خمسين جنديًّا فرنسيًّا كانوا مصابين بالطاعون وميئوسًا من شفائهم وذلك قبيل إخلاء يافا، ولعجز الجيش المنسحب أو عدم استعداده لحملهم وهم يحملون هذا المرض المرعب، وتجنبًا لوقوعهم في يد “الهمج”.. يتساءل “هيرولد” دهشًا عن أسباب اختلاف المؤرخين حول قرار الإعدام هذا، واستنكار أنصار نابليون إقدام البطل على اتخاذ مثل هذا القرار.. يقول هيرولد: “من الصعب أن نفهم لماذا أثارت هذه المسألة كل هذا الجدل المشبوب، فحتى لو كان بونابرت قد أمر بقتل بضع عشرات من مرضى الطاعون الميئوس من شفائهم رحمة بهم، فلا ريب في أن عملًا كهذا يمكن تبريره أكثر من ذبح آلاف من أسرى الحرب، وهو ما أمر به في يافا قبل ذلك بعشرة أسابيع”.
ولا مجال للدهشة.. فالجدل مفهوم جدًّا، والاستنكار طبيعي من جانب المعلقين الغربيين، فقرار نابليون المستنكر موجه ضد “الإنسان” الغربي، ولذلك يتعرض لنقد شديد لتحديد مدى انطباقه على المفاهيم الإنسانية، أما القرار الآخر الصادر بذبح 3000 مسلم فهو يتناول الهمج، الكائنات التي خُلقت على هيئة إنسان لتسهيل مهمة الإنسان الغربي، الإنسان الحقيقي المكلف باستغلال هذه الكائنات وحسن الانتفاع بها!
“أما المسجونون المسلمون في القلعة فقد أنهى بونابرت متاعبهم بحل حاسم على بساطته: فأمر بين 19 و 22 يونيه بأن يُرمى بالرصاص اثنان وثلاثون منهم دون اتخاذ أي إجراء قانوني سوى توقيع بونابرت. وكان بعضهم أسرى حرب أُخذوا في سوريا، استنفدوا أغراضهم بمجرد أن عرضهم في موكب نصره”([21]).
وفي 23 يونيو اقترح ديجا على بونابرت هذا الحل: “بما أن حالات الإعدام تتزايد في القلعة فإني أريد أن أعين جلادًا -يقطع الرءوس- ليحل محل فرقة إطلاق النار. وفي هذا توفير للذخيرة وتخفيف للضجة”. وأشَّرَ بونابرت في الهامش: “موافق”([22]).
([1])
([2]) الرافعي، ج1.
([3]) بونابرت عن Fertray P . 86 .
([4]) بونابرت عن مراسلات الخامس 79-90.
([5]) هيرولد – بونابرت في مصر.
([6]) ن.م .
([7]) الرافعي عن جريدة كورييه دلويجيبت، العدد الصادر في 20 برومير (1 نوفمبر 1798م).
([8]) “تحفة الناظرين” للشيخ الشرقاوي.
([9]) الجبرتي، ج3.
([10]) ويقول “هيرولد” إن دينون (صاحب هذا القول المأثور) كان معروفًا بتسامحه، وإنه كان يعبر بقوله عن حالة عقلية سادت وقتها بين العسكريين والمدنيين الفرنسيين.
([11]) بونابرت عن Danon I. 107
([12]) بونابرت عن مراسلات 5.
([13]) الرافعي، ج1.
([14]) الرافعي عن مذكرات بوريين.
([15]) راجع لويس عوض: قضية تحرير المرأة.
([16])
([17]) بونابرت عن Bourrianne Vol . 11 Ch. XV.
([18]) بونابرت عن: la Jonquiere IV . 271
([19]) بونابرت.
([20]) أبو عبيدة قائد الجيش العربي في الشام، رفض كل محاولات أمير المؤمنين عمر لإخراجه من المنطقة الموبوءة بالطاعون، وأصر على البقاء في جنده حتى أصيب ومات به قبل نابليون بألف سنة. فضلًا عن أن أبا عبيدة لم يقتل أسيرًا واحدًا ولا أعمل السيف في المدنيين.
([21]) بونابرت.
([22]) بونابرت عن: La Janquiere V . 23