جاءنا هذا الصباح بنبأ وفاة المؤرخ العراقي الكبير د. عبد الرحمن الحجي، أحد أعلام التاريخ الأندلسي، والذي طار ذِكْر كتابه «التاريخ الأندلسي» في الآفاق، وهو أحسن اختصار لتاريخ الأندلس فيما أعلم.
وكنتُ قد لقيته في بعض سفراته، فالتزمتُه أياما لا أفارقه إلا ساعات النوم، فاطلعت منه على رجل رفيع الخلق، عظيم الأدب، شديد التهذب، وهي صفة تظهر في العديد من إخواننا أهل العراق، تجد الواحد منهم مهما ارتفع مقامه في العلم لم يفارق ما هو فيه من سمت التواضع وإزجاء التقدير لمن في كان في عُمْر أولاده ولمن كان من تلاميذه.
وهكذا كان أستاذنا الراحل، عَلَامة في ذلك، وكان إذا أراد أن يطلب شيئا قدَّم له بمقدّمات وأطال في الحديث تمهيدا له، ثم حفَّه بالاعتذار عن اضطراره لإتعاب أحد فيه، يفعل هذا مهما كان الطلب بسيطا وميسورا.. من شدة أدبه وتهذبه.
وقد شغف أستاذنا بالأندلس شغفا عظيما،
وكان حريصا على إنشاء مركز إسلامي متخصص في البحوث الأندلسية، يفارق مناهج المستشرقين وينشر تاريخ الأندلس بمناهج علمية إسلامية، إلا أنه لم يفلح في هذا لانشغال أهل الأموال وذوي السلطة عن مثل هذه المشاريع، وقد أراني خطط المركز ومشروعاته ومقادير مصاريفه ونحو ذلك، واشتكى من إخفاق محاولاته مع كثرة إهدار المال في ما سوى ذلك.
ومن آثار شغفه هذا أنه صار مقيما بمدريد، لا سيما بعد أن منعته الإمارات فجأة من دخولها، وكان فيها أهله وولده، ولم يكن يعرف سببا لمنع دخوله فجأة بعد أن قضى فيها سنوات عديدة مع أهله.
أخبرني أن رسالته للدكتوراة عن الأندلس استعان فيها بمصادر من ثلاثة عشر لغة، فكان يدفع للمترجمين لترجمة بعض النصوص من اللغات الأوروبية واللاتينية، وذلك أن رسالته كانت عن “العَلاقات الدبلوماسية بين الأندلس وأوروبا الغربية”، فدفعت به همته إلى ترجمة ما ورد عن هذه العلاقات في المصادر التاريخية بهذه اللغات.. وكان قد سبقها برسالته للماجستير عن “العلاقات الدبلوماسية بين الأندلس وبيزنطة”.. كلاهما -الماجستير والدكتوراة- كانت عن الحقبة حتى نهاية الخلافة الأموية في الأندلس.
ونحن المصريون لنا سهم في المؤرخ الراحل،
فهو درعمي تخرج في دار العلوم، ثم حصل على دبلومات عالية من جامعة عين شمس،
قبل أن يرتحل إلى الغرب فيستكمل دراساته العليا في مدريد ثم يحصل على الدكتوراة من كمبريدج.
ولعل دراسته في دار العلوم هي التي وسَّعَتْ همَّه، فلم يكن أكاديميا محصورا في موضوعه العلمي الأندلسي،
وإنما كان رجلا مسلما غيورا، كتب في السيرة النبوية، وبعض البحوث الأخرى..
لكني اطلعتُ منه في هذا الباب على ما هو أهمّ من التأليف.
لقد كنتُ معه حين كان يحجز تذكرة الطيران للعودة إلى مدريد، وبينما نحن أمام موظف شركة الطيران،
إذ مهَّد لما يريد قوله بمقدمة لطيفة رقيقة، ثم قال له: يا أخي، لقد ساءني أن طيرانكم يقدّم الخمر على الرحلة الإسبانية التي أتيت عليها..
ثم استمر في موعظة لا تخلو من رفق ولطف كما لا تخلو من إصرار وقوة.
وكلما حاول الموظف أن يفهمه أن الأمر ليس بيده وإنما هو “نظام” عالمي
كلما أصرَّ أستاذنا على ضرورة أن يرفع هذا الأمر للمسؤولين إذا لم يكن الأمر بيده!
ولم يتوقف في نهاية المطاف إلا حين نقل الموظف الأمرَ إلى من فوقه، وجاؤوه بما يكتب فيه رغبته وطلبه.
ربما هذا هو أول موقف “دعوي” أشهده لرجل أكاديمي في غير تخصص الشريعة والدعوة، ولقد أدهشني حماسه وإصراره،
فكأن الذي يراه لأول مرة يتصور أن هذا الرجل قد خرج لتوّه من قريته الصغيرة فتفاجأ بالخمر على الطائرات!
بينما الرجل يجوب العالم وقد ركب مئات الرحلات الجوية..
إنما هو دليل على غيرته المتجددة التي لا يطفئها التعوّد ولا يخمدها الإلف!
استمر التواصل بيننا زمنا بعد هذا اللقاء، ولكن ظروفي في الانتقال وتغير البلدان لم تسمح بتجدده مرة أخرى.. فرحمه الله رحمة واسعة.
- محمد إلهامي يكتب: يحتاج هنا لفظًا قبيحًا - الخميس _26 _مايو _2022AH 26-5-2022AD
- محمد إلهامي يكتب: آخر ما عندي من الكلام في موضوع شيرين أبو عاقلة - الثلاثاء _17 _مايو _2022AH 17-5-2022AD
- محمد إلهامي يكتب: بعض من تاريخ مجهول - الثلاثاء _10 _مايو _2022AH 10-5-2022AD