(1)
لم يطلب الذين تمسكوا بدينهم إلا الامتناع عن ثلاث كلمات: الشهيدة، الترحم، الدعاء بالمغفرة.. بينما سائر معاجم اللغة واللغات الأخرى تتسع للكلام في رثاء مراسلة موهوبة، كان صوتها محفورا في أذهاننا وأعماقنا، مرتبطا بقضيتنا المقدسة!
لكن الذين يحبون الخلاف والمكايدة، تمسكوا بهذه الكلمات الثلاثة تحديدا وحصرا.. ليس لفرط رحمتهم ولا تهذبهم، فقد رأينا الأنياب المكشرة والأساليب المحرضة فضلا عن الشتائم.. بل لأسباب أخرى، ليس أولها هوان الدين في النفوس وليس آخرها حب الشهرة وإشعال المعارك.
وحين يطلب طرفٌ ما الامتناع عن ثلاث كلمات فقط، ثم يصر عليها الطرف الآخر متغاضيا عما تتسع له اللغة.. فالتطرف والتشدد والإساءة هنا من نصيب الطرف الثاني.
(2)
فلماذا طلبوا الامتناع عن هذه الكلمات الثلاث تحديدا؟
الجواب البسيط المباشر والواضح: لأنها كلمات دينية، ولها مدلولات خاصة..
وفي الدين من نصوص القرآن والسنة وإجماع العلماء النهي الصريح الواضح عن استعمالها في حق غير المسلم..
فلم يكن طلبهم الامتناع عن هذه الكلمات مجرد نزوة نفس، أو مؤامرة دبرت بليل، أو تنفيذا لرسائل التوجيهات القادمة من الموساد.. كان هذا النهي نهيا دينيا!
وأدل دليل على هذا أنه حين يموت المشهور من فساق المسلمين ومجرموهم لا يندفعون للإنكار على من ترحم عليه واستغفر له، ربما فعل بعضهم هذا كنوع من الورع أو الحذر، لكن كم مرت بنا في السنوات الماضية وفيات لمشاهير في التمثيل والرقص والسياسة، ولم تشتعل معركة الترحم عليهم!!
ربما انقسم الناس إلى من يدعو له بالجنة ومن يدعو له بالنار، لكونه إعلاميا مجرما محرضا على الدماء مثلا، لكن لن تجد أحدا منهم يُحَرِّم الدعاء له بالمغفرة والرحمةـ أو يهاجم الصلاة عليه!
فالمسألة عندهم مسألة علمية دينية!
(3)
أما الذين وقفوا في جانب الترحم والدعاء لها بالمغفرة ووصفها بالشهيدة، فقد كانوا مهرجانا ومسخرة.. وفي اللحظة التي كانوا يهاجمون فيها الآخرين بدعوى احتكار الدين وأن عندهم مفاتيح الجنة والنار.. كانوا هم يوزعون مفاتيح الجنة لمن شاءوا ويمنعونها عمن شاءوا!!
وصار الدين جدعنة وسخاء، والعاطفة مع البلطجة غلبت على كل كلام، حتى صار مشهدهم مؤسفا مريعا.. بعضهم باع دينه صراحة، وبعضهم صرح أن دينه قد تحرف تحريفا لم يحرفه دين من قبل، وبعضهم صار يقطع منه ما يحب ثم يرمي الباقي في الزبالة! وبعضهم أعلن أنه لن يدخل الجنة ما لم تدخلها شيرين!!
وهكذا صحّت النكتة القائلة:
ضحى بالأم والجنين لتنجح العملية.. فإذا بالذي كان يدافع عن الأقصى لأنه قضية دينية مقدسة ولأنه مسرى النبي، قد هدم دين النبي وانخلع منه لأجل تعاطفه مع المراسلة!!
وبدلا من أن نجاهد لأجل فلسطين في سبيل الله، صار علينا أن نترك الله ورسوله من أجل فلسطين!!
وهكذا، لا دين ولا علم ولا عقل.. بل عاطفة غبية تضرب ولا تبالي!!
وقد وصل الأمر إلى الدعاء أن يجعلها الله مع النبيين والصديقين والشهداء في الفردوس الأعلى من الجنة.. بل وصل الحال إلى إقامة صلاة جنازة عليها، وهو الأمر الذي لم يُبِحْه أحدٌ قط، حتى أولئك الذين قاموا بمجهود وافر وولادة
عسرة أرادوا بها استخراج أي شيء يقول بجواز الترحم عليها والدعاء لها بالمغفرة!!
ولعل هذا الحد ينبههم إلى أي مدى يجب عليهم أن يحذروا من ضياع الدين!
(4)
لا أعرف من هذا الذي اخترع التفرقة بين «المغفرة» و«الرحمة».. ثم ذهب يلتمس ويتكلف أن يجعل المغفرة ممنوعة .. أسأل الله أن يتوب مما
فعل، فإن لم يفعل، فلقد ضل بضلالته هذه خلق كثير.. وأشد من ضلالتهم، أنهم حسبوا أنفسهم قد وقعوا على تفريق دقيق عميق من خفي العلم، فصاروا يرمون غيرهم بالجهل!!
وهذا التفريق بين الرحمة والمغفرة اختراع اخترعه واحدٌ من عند نفسه، وهو مخالف لما في النصوص القرآنية والنبوية من أن
الكافر لا يُدعى له بالمغفرة، وأنه يائس من رحمة الله!!
وأولئك الذين ذهبوا يخلطون -لا أدري عن عمد أم عن جهل- بين دلالة المنطوق ودلالة المفهوم، وبين مسائل التفسير ومسائل الأصول، وبين القول الشاذ والقول الضعيف، وبين ما يُستدل له وما يستدل به.. أولئك أسأل الله أن يتوب عليهم..
فوالله لقد ثلموا في هذا الدين ثلمة لا أحد يدري متى ترتق!!
فعليهم وزرهم، ووزر من أخذ بقولهم!!
والاجتهاد، كما قال بعض مشايخنا، ليس مقامرة مضمونة النتائج (أجر أو جرين)، فليقل كل من شاء ما شاء.. بل هو أمر عظيم كم تورع عنه العلماء، ولم يجترئ عليه إلا من هو دونهم.
- محمد إلهامي يكتب: ليست مسألة الأزهر أو التخصص - السبت _25 _يونيو _2022AH 25-6-2022AD
- محمد إلهامي يكتب: ناصر والسيسي.. المستنقع واحد - الأحد _19 _يونيو _2022AH 19-6-2022AD
- محمد إلهامي يكتب: للعلمانية في مصر فرعان - الخميس _16 _يونيو _2022AH 16-6-2022AD