♦ في الثمانينيات، كنا صغارًا على سرير «محندق» في حجرة بالطوب اللبن، ثلاثة إخوة والرابع ينام في مكان نسميه «تحت الرجلين»..
في ليالي الشتاء الرقيقة رغم قسوتها، كان الشاطر فينا من يسبق إلى اللحاف ويحجز موضعًا «جنب الحيط» ويُدفئ المكان ويؤكد الاستيلاء عليه،
ويستحيل أن يغادره لأي عذر حتى لو حاول إخوته الآخرون الانقلاب ضده،
إلا إذا جاءه استدعاء صارم من السيدة أمي لتصحبه في رحلة تفقدية على أربطة البهائم أو لحلب البقرة حديثة النفاس .
♦ والرغبة في دفء الحياة والأنتخة والاستيلاء على مكان جيد تحت لحاف الأمان المتخيل سواء في السعي المادي العادي أو في الأفكار،
تُخرج الملايين معاشًا مبكرًا، فتتحدد انحيازاته واختياراته في السياسة والدعوة والفقه والكُرة والجغرافيا،
في وقت مبكر للغاية من حياته، رغبة في وهم الاستقرار والاسترخاء وراحة الدماغ.
♦ فيلقي الفتى بنفسه وسط شلة أنس من عجينته تؤمن بنفس أفكاره وتؤيدها،
وإن كانت أفكارًا مشبوهة فستساعده على التمويه عليها وتخدير ضميره تحت سحب الحشيش، وإن كانت متدينة تبغي الصلاح ستقول له دومًا:
«أحسنت وجزاكم الله خيرًا»، وإن ساقه حظه أن يكون زملكاويًّا، عافانا الله، فسيتعلم شعار «سنظل أوفياء»،
المهم أن يلتحق سريعًا بمكان آمن دافئ ويحفظ «الستامبات» المقررة.
♦ يقول أخونا الحاج لانكريه في «وصف مصر» محللًا مزاج المصريين وميلهم لهذا الدفء:
«ليست هناك وظيفة في مصر على الإطلاق ينبغي أن تكون بحكم نظامها وراثية، ومع ذلك فإن الوظائف تكاد تكون كذلك،
ويعود هذا إلى طابع هذه الدولة العجيبة حيث يبدو كل شيء وكأنه يتجه نحو الثبات والتقولب،
ولعل طقس مصر -وهو على الدوام متشابه- هو واحد من أسباب هذا الوضع الذي طبع أهل البلاد بطابع الجمود والتقولب،
فكل ما قصه علينا الرحالة القدماء فيما يتصل بالمزاج الهادئ بل وشبه الخامل للمصريين في أيامهم،
نجده الآن في مصريي اليوم ولقد احتفظ المصريون كذلك بالابتعاد عن الأسفار».
[وصف مصر، ج5 ص 46، 47].
♦ وهل يجب أن يبحث المصري عما يتعبه ويقرفه ويقلق أمانه ومنامه؟!
بالطبع لا، لكن يجب عليه، إن كان مصلحًا داعيًا للجمال أن يعيش بالعرض ليتعلم ويضيف إلى نفسه خبرات وعضلات،
أن يحيا الحياة باتساعها لأنه راحل عما قريب، والحياة بطبيعتها متحركة ساخنة تمور حوله بآلاف الأفكار، بل بآلاف العقائد،
ما يفرض على العامل لله أن يديم المخالطة والحركة والتفاعل بعيدًا عن اللحاف، يعيد تقييم نفسه باستمرار،
يغير «أكلشيهاته» الباردة في الرقائق وفي نصح الناس وفي رؤية الخصوم وفي تشجيعه للأهلي،
وفي نوع الكتب التي يقرأها، والاستفادة من المختلف قبل المؤتلف،
وألا يطمئن لموضع قدمه أو اللحاف الذي يحشر نفسه تحته، يلتقط من الثمار أطيبها، وثمار الفكر عزيزة كثمار المانجو.
- كارم عبد الغفار يكتب: فنجان قهوة يوفر كثيرًا من الخطب - الأثنين _19 _ديسمبر _2022AH 19-12-2022AD
- كارم عبد الغفار يكتب: السادة الدفيانين - الثلاثاء _29 _نوفمبر _2022AH 29-11-2022AD
- كارم عبد الغفار يكتب: عدنان إبراهيم.. و«الحتة الخايبة» - الجمعة _14 _أكتوبر _2022AH 14-10-2022AD