يكاد يكون الخليل بن أحمد بن عمرو بن تميم الفراهيدي هو العالم العربي الذي تمكّن من إنجاز فعل تاريخي من بين نحاة غير عرب ساهموا في تفعيل الأهمية الكبرى للغة العربية.
وهو المعلّم الملقب بالنجم الساطع الذي تتلمذ على يديه كثير من علماء العربية، وهو واضع علم العروض ودرس الإيقاع الشعري بما عرف بالأوزان الخليلية التي اعتبرت قاموسا للشعر العربي. ولكن السؤال هل ما تزال أوزان العروض هي القائمة في ماهية الشعر العربي؟ وهل يمكن عدّها بحورا لا يمكن للزمان أن يجعلها ميتة أو متراجعة أمام موجة الشعر الحديث أو شعر النثر؟
مولده وعلمه
الفراهيدي شاعر ونحوي ولد في مدينة البصرة جنوبي العراق (وقيل في عُمان) عام 100 هـ – 718 م، وتوفي عام 170هـ – 786 م، عن عمر 70 عاما.
يكنى بأبي عبد الرحمن. وهو أحد أهم أئمة اللغة والأدب، ودرس لدى عبد الله بن أبي إسحاق الحضرمي، وقد درس الموسيقى والإيقاع في الشعر العربي ليتمكّن من ضبط أوزانه واكتشف البحور الشعرية التي بلغ عددها 16 بحرا، أطلق عليها “الطويل-المديد- البسيط”، وتعرف بالممتزجة، “الوافر-الكامل-الهزج-الرجز-الرمل-السريع-المنسرح-الخفيف-المضارع-المقتضب”، وتسمى السباعية لأنها مركبة من أجزاء سباعية في أصل وضعها، ويوجد آخران هما “المتقارب-المتدارك” يعرفان بالخماسيين. لتكون ميزانا للشعراء في كتابة قصائدهم وتبيان صحتها من مفاسدها.
وهو عالم موسوعي وباحث، وعلى الرغم من كونه عاش زاهدا ممزّق الثياب، لكنه كان شغوفا بالتجديد في اللغة العربية، وهو أوّل من قدّم قاموس اللغة العربية وسماه “كتاب العين”، وقدم نظام علامات التشكيل في النص العربي، وأثرت نظرياته اللغوية على تطور العروض الفارسية والتركية والأردية.
وصفه البعض بـ”النجم الساطع” لمدرسة نحاة البصرة. كما وصف بالرائد الأول لعلم المعجميات. والفراهيدي تلقى عليه علماء اللغة منهم سيبويه، والليث بن المظفر الكناني، والأصمعي، والكسائي، والنضر بن شميل، وهارون بن موسى النحوي، ووهب بن جرير، وعلي بن نصر الجهضمي. وحدث عن أيوب السختياني، وعاصم الأحول، والعوام بن حوشب، وغالب القطان، وعبد الله بن أبي إسحاق.
فاعلية الإيقاع
الفراهيدي حين كان يسير بسوق الصفارين، سمع صوت دقدقة مطارقهم على نغم مميّز، فطرأت بباله فكرة العروض التي يعتمد عليها الشعر العربي. فكان يذهب إلى بيته ويتدلى إلى البئر ويبدأ بإصدار الأصوات بنغمات مختلفة ليستطيع تحديد النغم المناسب لكل قصيدة. وقد عكف على قراءة أشعار العرب ودرس الإيقاع والنُظُم ليقوم بترتيبها حسب أنغامها.
ويقول الناقد الدكتور جاسم الخالدي إن “نظرية الإيقاع التي جاء بها الفراهيدي ما زالت فاعلة في الشعر العربي على الرغم من القرون الطويلة التي قطعتها القصيدة العربية”.
ورغم إحساس بعض الشعراء بضرورة إحداث تغيير كبير في بنية القصيدة لكنهم -كما يقول الخالدي- “لم يمسّوا الإيقاع بشكل حاسم، وظلّوا يدورون في أمور شكلية لا تشكّل ذات قيمة، بل ذهب إلى أن “الانتقالة التي شهدتها القصيدة على يد بدر شاكر السياب ونازك الملائكة وعبد الوهاب البياتي وبلند الحيدري، لم تخرج عن تفعيلة الخليل، وإن طالها معول الهدم”.
وعما إذا كان الإيقاع ما يزال فاعلا في الشعر العربي، يقول الخالدي إن قراءة المشهد الشعري العربي تشير إلى أن “قصيدة العمود ما زالت هي الأكثر هيمنة بعد انحسار قصيدة التفعيلة وتراجع كتابة قصيدة النثر بعد أن ركب موجتها شعراء الصدفة بشكل أثر على نوعية ما يكتب”.
ويضيف سببا آخر؛ هو أن “قصيدة العمود قد غيرت لبوسها بعد ظهور شعراء قصيدة الشعر الذين أحدثوا نقلة مهمة في جسد القصيدة العربية المتوارثة”.
الموروث والمعاصرة
صار لقب الفراهيدي مألوفا، بل أصبح شخصية أسطورية ووصف بأنه عبقرية بارزة في العالم الإسلامي. بل قيل إن كتاب سيبويه الذي اشترك فيه 42 من الكتّاب، استند في المبادئ والمواضيع على نظائرها في مؤلفات الفراهيدي. ونقل عنه سيبويه 608 مرات، أي أكثر من أي مصدر آخر. ويعتبر الاثنان تاريخيا أقدم وأهم الشخصيات في التسجيل الرسمي لقواعد اللغة العربية.
ويقول الناقد الدكتور عمار الياسري إنه “منذ النشأة الأولى لنظريّة الأجناس الأدبية شهدت الأشكال الشعرية تحولات بنيوية كبيرة”، ويدعو إلى متابعة الشعر العربي القديم لملاحظة “التحولات العروضية التي نظّر لها الفراهيدي ثم أضاف الأخفش الخبب ثم ظهرت المواليا والموشح والقوما والدوبيت، وهي أوزان مستحدثة، وهذه كلها مدينة للأصل”.
لكن الياسري يستدرك بقوله إن “التجريب والتجديد حاولا أن يشكلا مقطعيات وتشكيليات قريبة من الأصل منفتحة المعنى، مما جعلها تسير بخطى محايثة للمشهد الكلاسيكي من أجل ديمومة مستمرّة تعمل على التواصل الاجتماعي”، وإن الذات العربية قد دُجنت عاطفيا على تلقي الوزن الفراهيدي باعتباره “ارتبط بالمناسباتية سواء كانت من المديح أم الرثاء أم الحماسة أم الحروب، لذا لم تشكل قصيدة النثر بنية إزاحية للشكل العمودي”.
ويضيف الياسري أن “الحاجة لقصيدة النثر مردها البحث عن تراكيب معاصرة مختلفة مبنى ومعنى عن العمود”، ويرى في ذات الوقت أن العمود الشعري “شكّل النزعة المتوارثة” باعتبار أن الذات العربية ما زالت تعيش إشكالية الموروث والمعاصرة”، وهو ما جعل -وفق قوله- “العمود يعيش هذه القرون المتعاقبة”.
هوية بحروف سحرية
الفراهيدي لم يفرض علم العروض على باقي الشعراء ولم يطالبهم باتباع قواعده من دون سؤال، وحتى قيل إنه انتهك القواعد التي وضعها بنفسه عن قصد في بعض الأحيان.
ويقول الناقد الدكتور صباح التميمي إنه “روي عن أحد العلماء أنه قال “أكلت الدنيا بعلم الخليل وكتبه، وهو في خصّ له لا أحد يشعر به”، مقدما هذا القول ليقرأ العقل التراثي الرصين، باعتبار أن صورة الخليل ما زالت تتكرّر مع كل قصيدة موزونة لأنه وضع إطارا رخاميّا للقصيدة العربية، وصار هوية لها، لم تزل تُشهرها بوجه أنتربول الأدب العالمي، في أية محاولة لحذفها أو تدجينها أو محو أثرها”.
ويزيد التميمي بقوله إنها “هويّة كُتبت بحروف سحرية غير قابلة للمحو”، مستندا على أن بحور الشعر العربي لم تزل “تتنفّس على الرغم من كل محاولات الكسر، والخنق، والانزياح والتحوّل والتقشّف”، وبهذا فهو يسميها “الأحافير الخليلية التي عاشت في الأزمنة الجيولوجية الذهبية، عصية على الطمر والإعفاء والمحو”.
لكنه يستدرك بالقول إن أوزان العروض لا تمثل روح الشعر؛ لأن “الشعر منفلت ليس له هويّة ولا حدّا يحدّه، أما القصيدة العربية فهويتها عروض الخليل”.
———-
المصدر: الجزيرة