هناك ظاهرة غريبة ومستمرة استرعت انتباهي خلال مسيرتي الأكاديمية والبحثية، وحتى في مسيرتي الفكرية والعملية، ومن خلال تأملي ومتابعتي لجهود الأمة في تحقيق النهضة، وهي ظاهرة السعي لقتل أو اغتيال أي فكرة وأي مشروع يسعى لتحقيق النهضة، وتشتيت جهوده، وتفريق أعضائه، بأدوات متعددة؛ كالسلطة، والمال، والخيانة، والإغراء، والتحريف، وغيرها.. إن قتل الأفكار والمشاريع النهضوية عائق كبير كبير أمام مجتمعاتنا وأمتنا، ينبغي أن نتنبّه له، ونوفر الحماية لأفكار النهضة التي تحمل ممكنات النهضة ولأفرادها، والدفع لإنجاز مشاريعها التي تجسّد لبنات بناء مشروع نهضتها الحضارية.
مستويات اغتيال المشاريع النهضوية
تتعدد مستويات الاغتيال لهذه المشاريع، فنرى في مستوى الأفكار كيف يتم قتلها واغتيالها بطرائق شتى؛ فإذا كانت الأفكار “مجسدة” في شخص أو شخصيات ما، أو مؤسسات أو جماعات، فإن أولى الطرائق هي استعمال وسائل القوة، بالتضييق على أصحاب الأفكار، وسجنهم، واستبعادهم، وحرمانهم من مباشرة أعمالهم بطرق عديدة ووسائل متنوعة، ومن ثمَّ يُفرَض تغييبهم بغيابات السجن أو ضيق المعاش أو فقدان العمل أو متاهة المحاكمات، أو الإغراق في الشبهات، وتقوم قوى الصراع الخارجي باستخدام المرتزقة من أبناء أمتنا والمستبدين والفاسدين وذوي الرؤية الحدية، لتنفيذ ذلك.
أما إذا كانت الأفكار “مجردة”، فإن قوى الصراع تنتقل في عملية قتل الفكرة على مستوى آخر، لأنها تدرك أن الأفكار المجردة أكبر من الأشخاص الذين يحملونها، وقد بقيت في ضمير الناس حية مرتبطة بأصولها الفكرية، وطهارتها الأخلاقية. ومن هنا يبتدئ الصراع الفكري على حقيقته، إذ إن قوى الصراع – كما يقول مالك بن نبي- سوف تعمل على امتصاص القوى الواعية في وبخاصة الشباب، بأي طريقة ممكنة، حتى لا تتعلق بفكرة مجردة، فيدفع طائفة من أبناء الأمة إلى تبنيها وتجسيدها لتصبح معه سهلة الحصر، والتوجيه، بوسائل القوة والترهيب أو بوسائل الإغراء والترغيب. كما فعل مع أبناء وجماعات الصحوة الإسلامية وقوى الإصلاح في أمتنا، بحيث إن تجّسدها في جماعات وأحزاب ومؤسسات، دون الانتباه إلى حمايتها، جعلها سهلة الوقوع في الحصار.
ومع استمرار قوى الصراع في محاربة الفكرة المجردة بوسائل ملائمة، ناعمة في الأغلب، من خلال وصمها بالتطرف أو الإرهاب، أو حصر حركة التجديد والإصلاح الإسلامي في مسمى “الإسلام السياسي” والترهيب منه، وتصويره على أنه بعبعٌ لا أخلاقي، يريد أن يلتهم المجتمع والدولة، وليس قوى حية يحق لها المطالبة والمغالبة على إدارة المجتمع وقيادة الدولة، كأي قوى أخرى في العالم.
كيف تعمل مشاريع الاغتيال المعنوية والماديّة؟
إن الآليات التي تستعملها قوى الصراع الفكري في قتل الفكرة المجسدة والمجردة، تعتمد كثيرًا على الخبراء المتخصصين في نفسية وعقلية مجتمعاتنا، المطلعين على بناها وتركيبتها القبلية والقومية والثقافية والدينية والسياسية، فتُوظَّف معرفتها في ظلّ الانثروبولوجيا وعلم الاجتماع والاستشراق بمراكزه المتعددة والرحالة والبعثات الدبلوماسية والمؤسسات الإعلامية والترفيهية، وحتى الجماعات الدينية للأقليات، الخ.
يرى مالك بن نبي -في كتابه الصراع الفكري- أن “قوى الصراع تستخدم لغة الشعارات السياسية مرة، ولغة الدين مرة أخرى، وتستغل جهل الجماهير مرة ثالثة، وتستخدم لغة المال والمصالح مرة رابعة. بل إن القوى المهيمنة تسعى أيضا إلى استخدام “سلاح المال” بتكوين “صداقات، أو كما يعبّرون بلغة الحرب اتفاقات في البلاد المستعمَرة، تساعده على توجيه هجمات محكمة في الوقت المناسب على بعض القطاعات من الجهة الفكرية”، ليعزل الأفكار الأصيلة الفعالة عن ضمير المجتمع، ويدخلها إلى منطقة الظلام، فلا يرى نورها المجتمع، بينما يتم إغراق المجتمع بكل فكرة خاطئة، أو “ميتة” انتهى تاريخ صلاحيتها، أو “قاتلة” تحدث تمزُّقًا في النسيج الاجتماعي والثقافي للمجتمع.
وإذا تأملت مجتمعاتنا، وبخاصة المجتمعات الحربية، باعتبارها قلب الأمة الإسلامية، فإنك ستجد أن قوى الصراع الفكري -الخارجية أساسًا- ووكلاءَها في الحكم والمؤسسات والنخب، يضربون كل قوة مناهضة للاستعمار وأعوانه، وساعية إلى التحرر والاستقلال الحضاري، مهما كانت الراية التي تتجمع تحتها. فإذا لم تتمكن قوى الصراع من ضرب هذه القوة الناهضة المناهضة للهيمنة الغربية على بلداننا، فإن قوى الصراع تسعى لئلا تتجمع تلك القوى تحت راية تحقق أكبر فعالية في الواقع.
ولهذا تجد سعيًا حثيثًا لإفشال أي مشروع أكاديمي، أو علمي، أو ثقافي، أو اجتماعي، أو اقتصادي، وبخاصة المشروع السياسي، لأن هذا الأخير سيجعل من أبناء الأمة هم من يتولى إدارة الشأن العام وتوجيه قوى المجتمع والتحكم في آلة الدولة التي صارت آلة حاسمة في تحقيق الأهداف الكبرى للمجتمع.
ونرى في الجانب الأكاديمي كيف ضُربت كل جهود التعريب والأسلمة وتوطين المعرفة والعلوم والتقنيات، تحت غطاء واسع من حجج كثيرة ظاهرها مغرٍ وباطنها من قبله المكر الكبير. أما من الناحية العلمية، فبسرقة المشاريع، واستقطاب الأدمغة إلى خارج الأمة، ومنع نقل التكنولوجيا وتوطينها، وإخفاء أسرارها. وأما من الناحية الثقافية والاجتماعية، فبإغراقنا بثقافة التفاهة، وتشويه الثقافة الاصيلة وضرب رموزها، وإحداث التمزق الاجتماعي بين مكونات الأمة، فضلًا عن مكونات المجتمع الواحد والشعب الواحد. أما من الناحية السياسية فبتشجيع الانقلابات، وحماية الاستبداد، وتقديم الأقليات على الأغلبيات، ومنع أي مسار ديمقراطي يختار فيه الناس من يحكمهم من عمق المجتمع.
والآليات كثيرة، والأمثلة أكثر من أن تحصى فيما تتعرض له الأفكار النهضوية من قتل واغتيال ممنهج، في مستوى التجسيد أو التجريد؛ أي في أشخاص حامليها أو في رموزها المؤسسية والتنظيمية، وما لم ننتبه إلى أهمية حماية أفكارنا ومؤسساتنا ومجتمعاتنا مما تتعرض له، فلن نخرج من هامشيتنا وتبعيتنا أبدًا.
————–