لُغتنا العربيةُ، يُسر لا عُسرَ فيها، تتميّز بجمالياتٍ لا حدودَ لها ومفرداتٍ عَذْبةٍ تُخاطب العقلَ والوجدانَ، لتُمتعَ القارئ والمستمعَ، تُحرّك الخيالَ لتحلّقَ بهِ في سَماءِ الفكر المفتوحة على فضاءات مُرصّعةٍ بِدُرَرِ الفِكر والمعرفة. وإيماناً من «الخليج» بدور اللغة العربية الرئيس، في بناء ذائقةٍ ثقافيةٍ رفيعةٍ، نَنْشرُ زاوية أسبوعية تضيءُ على بعضِ أسرارِ لغةِ الضّادِ السّاحِرةِ.
في رحاب أم اللغات
المُشاكَلة في البلاغةِ، أنْ يُذكر الشّيءُ بلفظِ غيْرهِ؛ لوقوعهِ في صُحبته؛ من ذلك ما قولُ أبي الرّقمعق، عندما سَأله أصحابُه، عن ماذا يريد طعاماً، وكان فقيراً:
أصحابُنا قَصَدوا الصَّبوحَ بِسُحْرةٍ
وأتى رَسولُهمُ إليَّ خَصيصا
قالوا اقْترحْ شَيْئاً نُجِدْ لكَ طَبْخَهُ
قلتُ اطبُخوا لي جُبَّةً وقَميصا
فكأنّه قال: خيّطوا لي.
ومنه قول أبي تمّام:
مَنْ مُبلغٌ أفناءَ يَعْرُبَ كُلَّها
أنّي بَنَيْتُ الجارَ قَبْلَ الْمَنْزِلِ
وأَخَذتُ بالطّولِ الذي لَمْ يَنْصَرِمْ
ثِنْيَاهُ والعَقْدِ الذي لَمْ يُحْلَلِ
فلولا بِناءُ الدّار لَمْ يصحّ بِناء الجار
دُرر النّظم والنّثر
أَلـــَمْ تَرَ وَجْهَ الحُسْنِ
العفيف التلمساني
(من الطويل)
أَلَمْ تَرَ وَجْهَ الحُسْنِ أَوْضَحَ وَاضِحِ
بَدَا فَهْوَ لِلأَنْوارِ أَفْضَحُ فَاضِحِ
وَلاَ عَاتِقٌ مِنْ دُونِهِ غَيْرُ ذَاتِهِ
وَمَا دُونَهُ مِنْ مَانِعٍ غَيْرُ مَانِحِ
إِذَا أَنْتَ أَعْطَتْكَ العُيونُ عُيوُنَهَا
سَبَتْكَ مَرِيْضَاتُ العُيُونِ الصَّحَائِحِ
وَإِنْ أَنْتَ أَفْنَتْكَ المَعَاني وَكُنْتَهَا
شَهِدْتَ المَغَانِي آهِلاَتِ الجَوَانِحِ
فَشَاهِدْ كَثِيفَ الكَوْنِ لاَ مُتَنَقصاً
تَجِدْ وَجْهَ حُسْنٍ لِلكَمَالاَتِ لاَئِحِ
فَمَا الدَّوْحُ تَثْنيِهِ صَباً سَحَرَيَّةٌ
بَكَتْ بِالنَّدَا خَوْفَ الجَنُوبِ المُنَاوِحِ
وَرَدَّدَ فِيهَا لَحْنَهُ كُلُّ مُعْرِبٍ
مِنَ الوُرْقِ مِنْ مَعْنىً مُغَنٍّ وَنَائِحِ
وَأَوْقَدَ فِيهَا وَامِضَ البَرْقِ ضَوْؤُهُ
فَلاَقَى الدُّجَى مِنْ زَهْرِهِ بِالمَصَابِحِ
فَيَا حُسْنَ وَجْهٍ مِنْ كَنِيفَاتِ مَركَزٍ
هَجَاهَا غَمٍ لَكِنْ بِعَيْنِ المدَائحِ
تَطَوَّرَ في أَشْكَالِهَا ذَلِكَ الذَّي
لَهُ القَيْدُ وَالإِطْلاقُ رُتْبَةُ لاَمِحِ
فَإِنَّ الوُجودَ المَحْضَ لَمْ يَأْتِ بِدْعةً
وَمَا غَيْرُهُ يَأْتِي بِبَدْعٍ وَصَالحِ
هُوَ البَحْرُ لاَ سَطْحٌ ولاَ سَاحِلٌ لَهُ
فَمِنْ طَائِرٍ فِيهِ ومَاشٍ وسَابحِ
شَجَتْ مَاءَهُ واسْتَوْقَفَتْ مِنْهُ فُلْكَهُ
سَرَائِرُ يُبْدِي صَوْنَهَا كُلُّ بَائِحِ
من أسرار العربية
في دُنُوِّ أوْقَاتِ الأشْيَاءِ المنتَظَرةِ وحَينونَتِهَا: تَضَيَّفَتِ الشَّمْسُ: دَنَا غُرُوبُهَا. أقْرَبَتِ الحُبْلى: دَنَا وِلادُها. اهْتَجَنَتِ النَّاقَةُ: دَنَا نِتاجُها. ضَرَعَتِ القِدْرُ: دَنَا إدْرَاكُهَا. طَرَّقَتِ القَطاةُ: دَنَا خُرُوجُ بَيْضتِهِا. أزِفَتِ الآزِفةُ: دَنَا وَقْتُهَا. أقْطَفَ العِنَبُ: حانَ أن يُقْطَفَ. أحصَدَ: الزَّرْعُ حَانَ أنْ يُحْصَدَ. أقْرَنَ الدُّمَّلُ: حانَ أنْ يَتَفَقَأَ.
وفي أوائل الأشياء: الصُّبْحُ: أوَّلُ النَّهارِ. الغَسَقُ: أوَّلُ اللَّيْلِ. الْوَسْمِيُّ: أوَّلُ المَطرِ. البَارِضُ: أوَّلُ النَّبْتِ. اللُّعَاعُ: أوَّلُ الزَرْعِ. اللّبَأُ: أوَّلُ اللَّبنِ. السُّلافُ: أوَّلُ العَصِيرِ. البَاكُورَةُ: أوَّلُ الفَاكِهَة. البِكْرُ: أوَّلُ الْوَلَدِ. الطَّلِيعَةُ: أوَّلُ الجَيْشِ. النّهَلُ: أوَّلُ الشُرْب. الوَخْطُ: أوَّلُ الشَّيْبِ. النُّعَاسُ: أوَّلُ النَّوْم. الحَافِرَةُ: أوَّلُ الأَمْرِ. الزُّلَفُ: أوَّلُ سَاعَاتِ اللَّيْلِ وَاحِدَتُهَا زُلْفَة. الاسْتِهْلالُ: أوَّلُ صيَاحِ المولودِ إذا وُلِد. العِقْيُ: أوَّلُ ما يَخْرُجُ من بَطْنِهِ. النَّبَطُ: أوَّلُ ما يَظْهَرُ مِنْ ماءِ البئْرِ إذا حُفِرَتْ.
هفوة وتصويب
ترد هذه العبارةُ كثيراً «لا يَجِبُ أن تُهْمِل عملَك»، وهي خطأ؛ والصواب «يَجِبُ ألّا تُهْمِل عملَك»، لأنّ النفي مسلّط على«الإهمال» في كلمة تهمل، وليس على «الوجوب» في كلمة يجب. وَوَجَبَ الرَّجُلُ وُجُوباً: مَاتَ؛ قَاْلَ قَيْسُ بْنُ الْخَطِيمِ:
أَطَاعَتْ بَنُو عَوْفٍ أَمِيراً نَهَاهُمُ
عَنِ السِّلْمِ حَتَّى كـانَ أَوَّلَ وَاجِبِ
وكُثُرٌ يعبّرون عن جمالِ الحديث بقولهم «هذا حَديث شيِّق»، وهو خطأ، والصَّوابُ «هذا حديثٌ شائقٌ»، لأن كلمة شيِّق تعني: مُشتاق.
من حكم العرب
لَوْ كُنْتَ تَعلَمُ ما أَقولُ عَذَرْتَني
أَو كُنتَ تَعلَمُ ما تَقولُ عَذَلْتُكا
لِكِنْ جَهِلْتَ مَقالَتي فَعَذَلتَني
وَعَلِمْتُ أَنَّكَ جاهِلٌ فَعَذَرتُكا
البيتان للخليل بن أحمد، والعاذِرُ الذي يقبلُ العُذْر والعاذلُ اللائم، أي الذي لا يقبلُ العُذْرَ.
يقول لو فهمَ كلّ منّا كلامَ الآخر، فلن يلومَه، ولن يُعاتبه، وعلى كل منّ تقبّل الآخرين إذا لم يفهموه، ويعذر عدم إدراكهم ذلك.
———-
فواز الشعّار