“بعض الرسامين يحولون الشمس إلى بقعة صفراء، والبعض الآخر يحول البقعة الصفراء إلى شمس”، بابلو بيكاسو.
ليست لي خبرة ولا معرفة بالمنهج النقدي الأدبي، إذ تقتصر علاقتي بالأدب “باستهلاك” الرواية كجنس أدبي و”الاستمتاع” بها إن كانت أهلا لذلك. لكن وجدتني في وضع آخر مع رواية الأستاذ وليد سيف “مواعيد قرطبة”، مما جعلني أتساءل: من أي دواة يغمس وليد سيف ريشته؟ ومن أي قاموس يمتح مفرداته؟
لقد اجتاحني شعور غير مألوف ما فتئ يتنامى اطراديا مع الغوص في الرواية، يتعالى عن “الاستهلاك” و”الاستمتاع”. شعور بقدر ما يستفز ذائقة الجمال حدّ الثمالة، بقدر ما يحفز ملكة التفكير والتأمل حد الإزعاج.
ما إن انتهيت من الرواية حتى اعترتني حالة لم أقدر على تبين حقيقتها: مزيج من الصفو والكدر، الغبطة والأسى، الارتياح والكمد.. أحاسيس تتداخل بشكل غريب وكأنه تبادل للأدوار، ما وقفت عند وجه للبحث عن مسبباته إلا داهمني الوجه الآخر مُشهرا في وجهي المسببات الأخرى. هذه الازدواجية في الأحاسيس هي إحدى أبرز سمات هذه الرواية، لا تكتفي بتسجيل انطباع في نفوسنا فقط، بل تعيد مزج عجينة النفسية وتشكيلها بحيث يصبح العقل أمامها عاجزا عن تفسيرها، وعليه فإن قارئ الرواية قبل البدء لن يكون هو نفسه بعد الانتهاء منها!
إن سيف أبحر في أعماق النفس الإنسانية من خلال الغوص في نفسية أبطال روايته، لقد خلق وليد من خلال إبحاره وغوصه حالة عجيبة من التناقض، فتجد القارئ تارة يتعاطف مع أحد أبطال الرواية وتارة يتحامل عليه، تارة يعترف بصنيعه وتارة ينكر عليه.. دليل ذلك مثلا بطل الرواية محمد بن أبي عامر، فتجدني كقارئ تارة أتعاطف معه لنبل أهدافه وغاياته وسعيه الحثيث وإرادته القوية لتحقيق ذلك، وتارة أخرى أتحامل عليه لانخراطه في سياق السلطة حد الاستبداد ووقوعه في المحظور نفسه الذي كان يعاتب عليه غيره، ونفس الأمر يقاس عليه بقية أبطال الرواية.
وقفت بعد طول تأمل على طبيعة هذه الحالة التي تعتري النفس حين قراءة “مواعيد قرطبة”، وهي بالمناسبة ليست سوى انعكاس للواقع الذي تتحدث عنه الرواية. فقد نجح وليد سيف -وباقتدار- في جعل نفسية القارئ مرآة لأحداث الرواية درجة تلبسها والتأثير فيها (ازدواجية الشعور).. تفعل فيها فعلها إن صفوا أو كدرا، ارتياحا أو كمدا. بمعنى أن القارئ ليس ذاتا منفصلة عن الرواية، كما هي العادة في الكثير من الإبداعات الأدبية، إنما يصبح هو نفسه موضوعا للرواية، جزءا من أحداثها، وشخصا من شخوصها. وإنه لعَمري ميسم ينفرد به وليد ويتميز به في عمله الروائي هذا.
إن هذه المسألة المثيرة لا تتوقف عند أبطال الرواية بل تتعداها إلى الأندلس، موضوع الرواية ومسرحها، بحيث يمكن القول -ودون مبالغة- إن وليد سيف اختارها عن وعي وبعد نظر.. اختارها ليضع فيها أحمالا أثقلت كاهله، فاتخذها مختبرا لتقليب النظر في هموم أمته وعالمه وعصره، ولتمحيص مقولات ترتبط بالنفس البشرية والاجتماع الإنساني. وليس الاختيار غريبا بالنسبة للأندلس لأنها كانت تمثل أوج حضارة الإنسان، حيث تعبر عن مستوى متطور من الرقي على المستويات الفردية والجماعية، وعلى مستوى الأنظمة السياسية والعلمية والثقافية والاجتماعية والاقتصادية والتربوية.. فهي الأجدر بأن تكشف مكنونات النفس البشرية، خاصة ما يرتبط بصراع الثنائيات التي تعتمل داخل هذه النفس، وتبرز تدافع الخير والشر في صناعة الحضارة، لأن الحضارة كاشفة.
كما تعتبر الأندلس مختبرا لفهم إشكالية النهوض والسقوط، وإشكالية الدولة والسلطة، ناهيك عن قضايا التحولات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية. ومَنْ غيرُها قادر على الكشف عما أشكل على الإنسان، في الماضي كما في الحاضر، من قضايا بدونها لن تقوم له قائمة؟ أوَليست الأندلس خلاصة حضارة ممتدة في الزمان والمكان، وحصاد خبرة تداعت إليها من كل حدب وصوب؟
وتنفرد الأندلس بتقديم نموذج لعلاقة دقيقة وموزونة بين الدين والثقافة، وبين الشهادة والغيب، وبين الدنيا والآخرة. توليفة جاءت بعد تجارب من العلاقات أنهكت ما سبقها من المجتمعات، فجعلت من الدين، ليس مقابلا للحضارة، وإنما روحها الذي يوقظ فيها قيم التسامي عن الركون إلى الأرض.
قد يقول قائل: إن في الأمر مبالغة، فكيف لسرد روائي أن يكون له كل هذا الوقع وكل هذا الأثر؟ فكيف نسقط سمات يختص بها العمل الفكري أو الفلسفي أو الوعظي على العمل الإبداعي؟ قد يكون هذا الاعتراض وجيها لو أن “مواعيد قرطبة” كانت عملا روائيا “عاديا”، الغرض منه “الإمتاع والمؤانسة”، غير أننا أمام عمل يتقاطع فيه الأدبي والفكري والفلسفي والوعظي والتاريخي، تقاطعا ليس فيه تكلف أو إسقاط، بل لا تكاد تتبينه أو تستشعره، تقاطعا يعكس مهارة فائقة في غزل هذه الخيوط لبناء حبكة الرواية.
فالقارئ وهو يغوص في سردية وليد سيف، يدخل عالما يصبح فيه الواقع والخيال وجهين لعملة واحدة، تكاد لا تتبين الحدود بينهما. لقد جعل من الخيال بعدا ثالثا للواقع، يضفي عليه المعنى بإلباسه المعقولية والجمالية، فالخيال عند وليد سيف ليس بديلا عن الواقع أو تحريفا له، إنما هو حامل له، يعضده ويغذيه. فالواقع في السرد الروائي -بإيجابياته وسلبياته، في حربه وسلمه، في عنفه ولطفه- يثير لدى القارئ عواطف جياشة تحجب العقل، إلا أنه في “مواعيد قرطبة” يلتجئ وليد سيف إلى الخيال فيضخه في ثنايا ذلك الواقع، ليخفف من وطأة العواطف بامتصاص الفائض منها، رافعا بذلك تلك الحجب عن العقل.
إن الخيال، كما انطبع عندي من خلال هذه الرواية، هو كورق الهدايا بكل ما تحمله الكلمة من المعاني الوظيفية والجمالية، وهذا في ظني ما يضع الفرق بين السرد التاريخي والسرد الروائي.
وينطبق نفس الأمر على إشكالية الزمن، حيث تنزل ثنائية الماضي والحاضر بكل ثقلها على واقعنا؛ فالماضي مُصادَر من الحاضر من خلال قراءة مجتزأة ومتحيزة تحاكم الماضي بمعايير الحاضر. والحاضر مرتهَن للماضي، بحيث يصبح هذا الأخير أفقا للأول، فلا يعدو حاضرنا -والحالة هذه- أن يكون سوى إعادة إنتاج للماضي.
يقترح علينا وليد سيف منظورا مختلفا للعلاقة بين الماضي والحاضر، فلا هي مقطوعة ولا هي متماهية، وهو في ترميمه لهذه العلاقة لا يضع أحدهما بديلا للآخر، بل يحافظ على خصوصية كل وحدة زمنية، فيجعل القارئ يعيش زمنين دون تناقض أو انفصام، بحيث يمر من أحدهما إلى الآخر دون أن يشعر بذلك، فبقوة ما تتلَبَّسك الرواية، لا تعرف أَأنت في الزمن الماضي أم في الزمن الحاضر؟ لقد استطاع وليد أن يجعل من الماضي والحاضر وجهين لواقعنا؛ إذ نجح في أن يجعل الماضي معاصرا لنا بالتمييز بين ما هو حي فيه وما هو ميت، كما نجح في جعل الحاضر موضوعا للماضي، من خلال إحالة أسئلة واقعنا على الخبرة التاريخية.
إذا كانت الرواية قد نجحت في إدماج القارئ في عالمها بجعله ذاتا وموضوعا، فقد نجحت أيضا في صياغة الأحداث في استقلال عن حيثيات الزمان والمكان، بحيث تصبح للأحداث القابلية للصرف والإعراب حسب السياقات. وأنت تتابع أحداث الرواية تقف عند مشاهد يخيل إليك تارة وكأن واقعنا هو الذي يتحدث (مثلا حوار ابن أبي عامر مع إبراهيم في السجن الذي يجسد خلاصة إشكالية التغيير بين الثورة والإصلاح)، وتارة أخرى كأن التاريخ يعيد نفسه (علاقة المصلح بالسلطة).
يخيل إليّ أن وليد سيف الذي اعتبر القارئ ذاتا وموضوعا في سياق هذه الرواية، جعل منه جسرا يربط بين الواقع والخيال، وبين الحاضر والماضي، بحيث يصبح تبادل الصور سلسا وانسيابيا، فلا يلبث أن يتحول ما هو خيال إلى واقع (على سبيل المثال: محمد بن أبي عامر من الهامش إلى المركز ومن الرعية إلى السلطان وقصة الحب بينه وبين صبح)، وما هو واقع إلى خيال (مثال تحول زهراء هشام من القصر إلى السجن).
وقبل الختام أجدني ملزما أن أقف عند لغة الرواية، فهي لغة متميزة تكتنز المعاني الإبداعية والفكرية، فضلا عن المعاني الفنية والجمالية من خلال حس لغوي مرهف. فللغة جمالية ورونق يأسر الإنسان، كما هو الحال مع هذه الرواية، إلا أن وليد سيف لم يجعل من لغة الرواية غاية، إنما جعلها وسيلة لتبليغ معاني عظيمة وإثارة إشكالات عميقة خلافا للعديد من الأعمال الروائية والأدبية التي تجعل من اللغة الغاية الأسمى والقصد الأول والأخير، فيخرج القارئ بعد قراءته هذا الضرب من الروايات مستمتعا باللغة فقط دون أي انخراط فكري أو قلق وجودي ناتج عن غوص الرواية في أعماق النفس البشرية وتفاعلها مع قضايا الاجتماع الإنساني.
وختاما أقول: إن مواعيد قرطبة لم تخلف “مواعيدها”، كما أن وليد سيف لم يخلف كعادته “موعده”.
————
مصطفى المرابط
رئيس مركز مغارب للدراسات في الاجتماع الإنساني