معروف أن الإفتاء هو: بيان الحكم الشرعي عند السؤال عنه، وقد يكون بغير سؤال ببيان حكم النازلة لتصحيح أوضاع الناس وتصرفاتهم.
والمفتي هو العالِم بالأحكام الشرعية وبالقضايا والحوادث، والذي رزق من العلم والقدرة ما يستطيع به استنباط الأحكام الشرعية من أدلتها وتنزيلها على الوقائع والقضايا الحادثة.
والفتوى أمر عظيم لأنها بيان لشرع رب العالمين، والمُفتي يوقّع عن الله تعالى في حُكمه، ويقتدي برسول الله، صلى الله عليه وسلم، في بيان أحكام الشريعة.
وقال الشاطبي في موافقاته عن المفتي:
(المفتي هو القائم في الأمة مقام النبي، صلى الله عليه وسلم….) أما ابن القيم فيقول في إعلامه (المفتي هو المخبر عن حكم الله غير منفذ)
وقال ابن الصلاح عن الفتوى (إنها توقيع عن الله تبارك وتعالى)
فتاوى الرسول جوامع الأحكام
وأول من وقع عن اللَّهِ هو الرسول وأول من قام بهذا المنصب الشريفِ سيد المرسلين،
وَإِمام الْمُتقين، وخاتم النبيين، عبد الله ورسوله، وأَمينه على وحيه،
وسفيره بينه وبين عباده؛فَكان يفتي عن الله بوحيه المبين، و كان كما قال له احكم الحاكمين:
{قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ} [ص: 86] فكانت فتاويه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- جوامع الأحكام،
ومشتملة على فصل الخطاب، وهي في وجوب اتباعها وإحكامها وتحكيمها والتحاكم إليها ثانية الكتاب،
وليس لأحد من المسلمين العدول عنها ما وجد إليها سبيلا، وقد أمر الله عباده بالرد إليها حيث يقول:
{فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كنْتُمْ تؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلا} [النساء: 59]
المفتي قائم في الأمة
ولما كانت الفتيا هي القول عن الله عز وجل، والمفتي كما قال الشاطبي رحمه الله قائم في الأمة مقام النبي، صلى الله عليه وسلم، ونائب عنه في تبليغ الأحكام،
فهو من هذه الناحية شارع إما بواسطة النقل أو بإنشاء الأحكام بسبب نظره واجتهاده،
فهو مخبر عن الله كالنبي وموقع للشريعة على أفعال المكلفين بحسب نظره، وأمره نافذ في الأمة.
ذكر أبو عبد الله المالكي فيما جمعه من مناقب شيخه أبي الحسن القابسي الإمام المالكي: انه كان ليس شيء أشد عليه من الفتوى،
وأنه قال له عشية من العشايا ما أبتلي احد بما أبتليت به، أفتيت اليوم في عشر مسائل.
يتأكد خطر منزلة الإفتاء من وجه آخر وذلك أن هذا المنصب تولاه الله بنفسه كما في القرآن الكريم (يستفتونك قل الله يفتيكم) النساء 17 في موضعين من سورة النساء.
فهم قد استفتوا النبي صلى الله عليه وسلم فلم يكل الله تعالى إليه الفتيا وإنما تولاها بنفسه وأسندها إلى ذاته المقدسة.
وبعد أن تبين خطورة الفتوى ومسئولية المفتي نقف امام فتوى ومفتي سجل لنا فيها التاريخ مدي خطورة الفتوى
ومدى التزام المفتي الحق بالفتوى ومدي الصبر والتضحية التي يقتضي أن يأخذها المفتي المدرك لمسؤوليته
وانه يوقع عن رب العالمين فلا تأخذه لومة لأئم ولا ترهبه سطوة سلطان الأرض والدنا لأنه يرضي رب السموات ورب الآخرة.
احتل العبيديين طرابلس سنة (297هجري)
الذين واجهوا ثورة عارمة من قبيلة هوارة وأنظمت إليها قبيلة زناتة ضد العبيديين بقيادة ابو هارون الهواري.
أهل برقة يرفضون التشيّع
ومع دخول سنة ( 302 هجري ) ثار أهل برقة وهم من معتنقي مذهب أهل السنة على فقه الإمام مالك
وانتقموا من العبيديين الذين فعلوا الأفاعيل في سكان برقة بسبب رفضهم اعتناق المذهب الشيعي الاسماعيلي
واستنكارهم إعلان سب العبيديين للصحابة رضي الله عنهم على المنابر وفي الأسواق، فقتلوا من العبيديين عاملهم وكثير من جنوده.
وحدث في زمن المنصور ثالث الخلفاء العبيديين الإسماعيليين (334- 341ه)
أن حاولت الدولة العبيدية أن تجبر سكان برقة على اتباع المذهب الإسماعيلي في الأخذ بطريقة الحساب في رؤية الهلال،
وأراد أمير برقة من قبل العبيديين أن يكون الإعلان على لسان مفتي برقة وقاضيها (الشيخ محمد الحبلي).
قال الإمام الذهبي رحمه الله في ترجمته
الإمام الشهيد قاضي مدينة برقة، محمد الحبلى، أتاه أمير برقة فقال غداً العيد قال حتي نرى الهلال، ولا أخطر الناس وأتقلد إثمهم،
فقال : بهذا جاء كتاب المنصور -خليفة العبيديين-؛ وكان هذا من رأي العبيدية يفطرون بالحساب،
ولا يعتبرون رؤية فلم يرى هلال فأصبح الأمير بالطبول، والبنود وأهبة العيد، فقال القاضي لا أخرج، ولا أصلي؛
فأمر الأمير رجلاً خطب، وكتب بما جرى إلى المنصور، فطلب القاضي اليه فأُحضر فقال له تنصل وأعفو عنك، فأمتنع،
فأمـر فعلق في الشمس إلى أن مات، وكان يستغيث من العطش، فلم يسق، ثم صلبوه على خشبة فلعنة الله على الظالمين.
أن موقوف القاضي «الحبلي» الثابت الذي لم يتزحزح ولم يتغير،
وصموده في وجه لسلطان الجائر يعتبر محطة مشرقة في تاريخ الفتوى والإفتاء والمفتين،
يجب أن يقف عندها كل مفتي ويتعلمها كل طالب فقه، وأن تعتمد كدرس ينبغي أن يقف عنده من أراد أن يتصدر الإفتاء.
فالفتوى من الأمور الخطيرة والتي لها منزلة عظيمة في الدين، والمفتي خليفة النبي، صلى الله عليه وسلم في أداء وظيفة البيان،
وموَقِّع عن الله تعالى، قال ابن المنكدر: العالم موقع بين الله وبين خلقه فلينظر كيف يدخل بينهم.
المصادر
1- الدولة الفاطمية، على محمد الصلابي، بتصرف
2- نفس المرجع،
3- سير أعلام النبلاء، الذهبي ( ج15)
- فرج كُندي يكتب: من مبادرة السلام إلى جيل التطبيع - الثلاثاء _17 _يناير _2023AH 17-1-2023AD
- فرج كُندي يكتب: الرد على «العقيد» الذي وصف الرسول بأنه ساعي بريد - الأربعاء _21 _ديسمبر _2022AH 21-12-2022AD
- فرج كندى يكتب: ليبيا بين المحاكم الطائرة والثورية - الثلاثاء _27 _سبتمبر _2022AH 27-9-2022AD