- فدوى حلمي تكتب: الشيخ الغزالي وترويض الأنا - الأثنين _22 _أكتوبر _2018AH 22-10-2018AD
لا يخفى أنّ للشيخ محمد الغزالي رحمه الله غيرة محترقة على الأمّة الإسلامية أكسبته قدرة نقدية تتخطّى النظرة المارقة لتغوص في أعماق أبعاد الوقائع، فامتاز بجرأته وصراحته في قوة نقده للتيارات الإسلامية والجهود الدعوية المتخاذلة أو المنحرفة في أداء مهامها لكيلا يقع الخلط بين صورة المنهج الإسلامي القويم وبين كبوات ممارسات الإسلاميين بوصفهم بشرا، هذا الطرح حاز إعجاب الإمام البنّا فطلب من الإخوان المسلمين الاقتداء بأسلوب الغزالي الأدبي ولقّبه بأديب الدعوة.
تجربة الغزالي داخل جماعة الإخوان المسلمين وانطلاقه في الدعوة العالمية للإسلام أثريا وعيه وعاطفته بمخزون علمي ومعرفي مصقول بخبرته الميدانية الواسعة، فتمكّن من إدراك مواطن الضعف والقوة في العمل الإسلامي بشقيه الدعوي والسياسي، وأتقن معالجة الإخفاقات الداخلية بأسلوب مواجهة الذات بالحقيقة ومحاسبتها قبل التقييم الخارجي.
لم يكن الشيخ الغزالي يجد غضاضة في قشع ضباب القداسة عن ذات الداعية وإبطال توهمات العصمة عن العاملين لأجل الإسلام، ليس بهدف الجلد أو تعظيم الإحساس بالذنب المرسِّخ لعقدة التقصير إنّما بغرض صناعة أفراد تعي مكانتها الواقعية في طريق الدعوة كشركاء ومعاونين، وبمعنى أدقّ كإخوة وليسوا كأنبياء مخصوصين بوحي البصيرة أو كأوصياء حصريين على الإسلام، وهنا يتساءل الغزالي: «أنا ومع ألوف غيري من النّاس نملأ هذا الميدان، ميدان الدفاع عن الإسلام..، أترانا نجحنا في هذه المهمة التي شغلتنا هذا الأمد؟ إنّ الجواب الصحيح، لا. ونعم. ولكن (لا) تُقال مراراً وبقوة، أمّا (نعم) فتقال حيناً وعلى إغماض».
ليس بمستغرب على شخص الغزالي الإقرار بالخطأ فمما اُشتهر عنه غضبته لما يعتقده حقّاً وشجاعته في سرعة أوبته إذا تبين له خلاف ما يعتقده فلُقّب بالشيخ الأوّاب، فما أسهل الإذعان إلى الحقّ عندما نفصل أنفسنا بأسمائنا وصورنا عن تقييم ما تقدمه أيدينا، وعندما يكون العمل لخدمة الدين وسيلة لا غاية بحدّ ذاتها فتُهمل العواقب، لذا عكف الغزالي على التحذير من مفهوم ما سمّاه (الدوران حول الذات) وهي تلك الحالة الوجدانية التي تخدّر العقل بسيطرة الإعجاب بالإنجاز الشخصي وبالازورار عن قيمة التفاني الخالص، فيقول: «الإخلاص روح الدين،..وسياج العمل..، ومع ذلك كلّه فإنّ الإخلاص لله والتجرّد للقيم الإسلامية قد يكثران في القاعدة ولكنهما يقلّان عند القمة! قد يكثران بين الكادحين والمحترفين ولكنهما يقلّان بين مدمني الحديث عن الدين وعلومه ومثله»
هذا المبدأ هو محور تقبّل النقد الذاتي ومدار التوافق عند التنازع، دون اللجوء إلى طحن قيمة الفرد التي تميّزه عن غيره وقد كان الغزالي واضحاً في هذه النقطة فيقول: «لستُ أستكثر على الرجل الممتاز أن يعرف لنفسه قدرها وأن يقرر لها حقّها!..،إنّما الشيء الذي يستثيرُ النفس أن يُكثرَ الادعاء العريض وأن ترى الرجل في منزلة غريبة يراها لنفسه، فيصبح وليست له كفاية القواد، ولا طاعة الجنود. لأنه في رأي نفسه يجب أن يتقدم، وهو يحرص على ذلك بينما لا تساعده مواهبه على الوقوف في الطليعة وتحمّل العبء..، هذا المرض شائع بيننا».
وحتى لا يكون حديثنا عن منهجية النقد الذاتي للشيخ الغزالي نظرياً هامدَ التطبيق، سأختمُ بقصة ذكرها د.محمد عمارة في كتابه (الشيخ محمد الغزالي الموقع الفكري والمعارك الفكرية)، لقد حدث أنّ الغزالي وصف د.عمارة في إحدى محاضراته في قطر بأنّه أحد كُتّاب اليسار الإسلامي، فلما نشرت صحيفة الأهرام الخبر صُدم د.عمارة لكنّه لم يرُد بكلمة ولم يراجع الشيخ لشدة تقديره لمكانة الغزالي، وبعد فترة وجيزة تبيّن للشيخ حقيقة الأمر فأرسل إلى د.عمارة خطاباً:
«…فإنّ القليل الذي قرأته لك أخيراً ردّني إلى الصواب في أمرك، وجعلني أندم على تعجلي في عدّك من كتّاب اليسار الإسلامي، لقد كنتُ في ضيق شديد للحرج الذي وقع فيه الفكر الإسلامي عندنا هنا في الخليج الذي يمرح فيه الغزو الثقافي غير خجل ولا قلق، وتناولتُ ناسا قرأت لهم ما لا يسُر، ولكنّي ما كنتُ قرأت لك وإنّما حدثني البعض أنّك تصف الشريعة الإسلامية بأنّها من وضع الفقهاء، وتتبنى النظرة المادية إلى الفلسفة الإسلامية، وما كان يليق بي أن أعتمد السماع في تقدير الرجال، ومن ثمّ كنتُ بعد وصفي لك باليسار الإسلامي قلقاً في عدالة الحكم الذي صدر مني بالنسبة لكم، خاصة والآن وبعد قراءات قليلة لآثارك الأدبية، أيّها الأخ العزيز رجعتُ إلى من حدثوني وقلتُ لهم:إنّ الطبيعة العقلية للدكتور محمد عمارة تتسم بعمق النظرة ودقة الحكم وسعة العلم والتجرّد للحقّ، وإذا مضى في هذه الطريق فأحسبه سيكون نموذجا للأستاذ العقّاد وعبقرياته الإسلامية. معذرة عمّا قلتُه وعند أول فرصة لكتابة عامّة سأنشر رأيي فهذا حقك الذي يفرضه علي ديني.»
لا أدري هل أعلقُ على حكمة ورشد صاحب الحقّ د.محمد عمارة بتفويت الفرصة على المتربصين بقامة الشيخ الغزالي آنذاك وتمنيهم لو مزّق قلم د.عمارة عمامة الشيخ على أرصفة الصحف والمجلات، أم أقف على انقياد العلاّمة الغزالي السلس إلى الحقّ ممتثلاً للعدالة؟
ألا إنّ لهذا الدين جبالاً كلما شمخت بعلمها وبذلها ازدادت لله تواضعاً، فتندكُّ على سفوحها حظوظ نفوسهم.