عنتر فرحات يكتب: نفوذ أمريكا ونظرية قريش في السيطرة الناعمة

في عالم يتيه ضلالا القوي يأكل الضعيف يعطينا مشهدا منه الشهيد الطيار في حضرة الملك (الذي لا يظلم عنده أحدا) النجاشي:

(أيها الملك كنا قوما أهل جاهلية نعبد الأصنام ونأكل الميتة ونأتي الفواحش ونقطع الأرحام ونسيء الجوار،

يأكل القوي منا الضعيف، فكنا على ذلك، حتى بعث الله إلينا رسولا منا نعرف نسبه وصدقه وأمانته.

ولم يكن هذا حال الجزيرة العربية فقط؛ بل كان حال حتى الأمم المجاورة وإن كانت ترى في نفسها أنها بلغت أوج الحضارة، سواء الفارسية أو الرومانية البيزنطية.

-وفجأة ظهر نور من الجزيرة العربية التي لم يكن لها أي شأن أو دور حضاري في المنطقة.

-فهنا لا بد أن يتبادر إلى الذهن لماذا كانت الرسالة في الجزيرة ولم تكن في إحدى الأمم الحضارية المجاورة،

والقرآن ينص أن الله عز وجل يرسل الأنبياء إلى أهل القرى (المدينة) ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُّوحِي إِلَيْهِم مِّنْ أَهْلِ الْقُرَىٰ﴾ وليس للأعراب (نرجع له في موضوع خاص).

-فالجواب بعد تقدير الله عز وجل وإرادته أن يجعل رسالته حيث يشاء فثمة أمر آخر ويفسره قول أبي جهل في بداية الدعوة المحمدية:

-تنازعنا نحن وبنو عبد مناف الشرف، أطعموا فأطعمنا، وحملوا فحملنا، وأعطوا فأعطينا، حتى إذا تجاثينا على الركب وكنا كفرسي رهان قالوا منا نبي يأتيه الوحي من السماء، فمتى ندرك هذه، والله لا نؤمن به أبدا ولا نصدقه-.

ويوضحه أكثر قول أبي جهل أيضا:

والله إني لأعلم أنه لنبيٌّ، ولكن متى كنا لبني عبد مناف تبعا-.

-ما يعني يقينا أن النبي لو خرج من الفرس أو الرومان لكان حجة كل منها في دحض دعوته أنها مجرد امتداد للسيطرة المعنوية بعد أن فشل كل منها في حسم الصراع عسكريا لأكثر من سبعة قرون، فكان لا بد أن تكون الرسالة في أرض محايدة.

-أكيد هنا يتبادر إلى الذهن سؤال إذا كان أبو جهل ولم يقبل الرسالة خشية أن يضيع منه الشرف الذي تنافسه وبني عبد مناف؛ فكيف ستؤمن به العرب وهي التي تعتز بحريتها وبأنفتها وعدم انسياقها أو خضوعها للإمبراطوريات المجاورة فكيف أن تخضع لمكة أو أي قبيلة أخرى!

-وهنا مربط الفرس والنقطة الأهم والتي منها استمدت أمريكا اليوم قوتها الحديثة والتي بها تسيطر على العالم.

-نعم كانت لمكة سيطرة مباشرة على العرب، ولكن سيطرتها لم تكن عسكرية بقوة السيف، كما كانت حالة الإمبراطوريات المجاورة؛ بل كانت معنوية امتدادا لتعظيم العرب للبيت العتيق، وتظهر حنكة وعبقرية سادات قريش إضافة إلى السياسية الاقتصادية حيث جعلوا من زيارات البيت مواسم ثقافية ودينية والأهم اقتصادية، فَوفَّرُوا لحجيج البيت العتيق كل ما يحتاجونه (خدمات سياحية اليوم)، بل وتنافست كبار عائلات قريش في خدمة الحجيج، حيث كان كل بطن يختص بخدمة معينة (السدانة، السقاية، الرفادة، الحجابة).

وهذا ما أعطى لقريش تلك المكانة الكبيرة ليس في الحجاز فقط بل في الجزيرة العربية كلها.

-وعن طريق هذه القوة المعنوية (تعظيم البيت) مع تقديم كل الخدمات للحجيج، وإضافة إلى ذلك تنظيم المواسم الثقافية أيام الحج (سوق عكاظ، ومجنة، وذي المجاز) كان لقريش قدم السبق وعلا كعبها بين القبائل، وهذا ما يفسره أنها لما أسلمت بعد الفتح أسلمت كل القبائل.

لا محالة تسأل ما علاقة هذا بأمريكا اليوم.

-بعد الحرب العالمية الثانية، وتبين يقينا أن قوة السلاح لا تكفي في حسم المعارك، وأول من أدرك هذا اليابانيون بعد أن كانوا أول ضحية للقنبلة النووية، وتأكدوا أن العلم يعلو القوة.

-أدركت أمريكا أن سيطرتها على العالم يجب أن تكون معنوية قبل أن تكون عسكرية، وطبقت نظرية قريش السياسية، فكما كان قريش البيت العتيق الذي يعظمه الناس أمريكا خلقت الديمقراطية والحريات الوهمية وقدمت لها بالتنمية البشرية، وظهر هذا حقيقة في أمريكا 1930م لما كانت تعطي للأقليات تلك الحريات الوهمية، وتسحب منهم الروح المعنوية خدمة لأمريكا.

-ثم عن طريق الحرية بدأت تغزوا العالم، وإن كان لقريش السبق في خدمة الحجيج، فهو الذي مارسته أمريكا، في خدمة كل مهاجر وتقديم تلك المساعدات حيث كل من يزورها يرجع منبهرا من الحضارة والخدمات التي تقدمها أمريكا (وهي في الحقيقة مجرد خدمات لسحب الروح المعنوية)، وحتى يسهل لأمريكا السيطرة المباشرة باسم الديمقراطية والحرية جعلوا ما يسمى التنمية البشرية هي المقدمة للسيطرة المعنوية، والديمقراطية الحاجز الذي به يصلون إلى البلاد التي يريدون وهذا ما يفسر لنا ظهور ما يسمى بمشاريع التنمية البشرية مرة أخرى بعد أحداث 11 سبتمبر 2011م، ثم تمكنها ومحاولة ترسيخها بعد 2011م.

وهو أكبر تفسير لمحاولة سيطرة جديدة، أو لنقل ما بعد المعادلة الصفرية والحروب غير التقليدية.

-مهما يكن من أمر أمريكا وقدرتها الكبيرة في السيطرة تبقى الأولوية وقدم السبق لقريش والعرب في تطبيق النظرية السياسية (القوة الناعمة).