الظروف صالحة لدعوة إسلامية ناجحة والخلل في أيمان الأمة بعقيدتها ورسالتها
عندما ننظر إلى قوة حجج الإسلام وكثرتها وموافقتها للتوجهات العلمية والإنسانية للإنسان المعاصر نتساءل:كيف لم يعم الإسلام الكرة الأرضية؟
والتساؤل الأولى بالنظر إلى معطيات واقع الأمة هو: كيف صمد الإسلام ولم يندثر رغم واقعه الكارثي المأساوي؟
وتلك معجزة أخرى، لأن لولا القوة الذاتية التي أودعها الله فيه والحفظ الذي أحاطه به لكان قد اندثر وعفي أثره منذ قرون وسبحان الله القائل
{إنا نحن نزّلنا الذّكر وإنّا له لحافظون}
فالطعنات التي تلقاها الإسلام ويتلقاها في الداخل على أيدي من ينتسبون إليه ويحسبون عليه أشد وأخطر من الضربات التي تلحقه من الخارج، سواء عن عمد وعداء أو عن جهل وسوء تطبيق، فلو غربلنا التركيبة البشرية للأمة الإسلامية حسب الموافقة والمخالفة لهدى الإسلام اعتقادا وسلوكا، لوجدنا أن الفئة التي تمثله حق التمثيل وتحمل همّه ورسالته قليلة جدا، وهي مضطهدة مشتتة لا تستطيع تجسيد طموحاتها أو حتى الإفصاح عنها، أما أغلب المنتسبين إليه فهم عبء ثقيل عليه.
الملحدون الذين خطفتهم الدعاية الشيوعية
منهم الملحدون الذين خطفتهم الدعاية الشيوعية إبان ازدهارها، ورغم أن سندها السياسي (الاتحاد السوفيتي)،
وسندها الفكري (الماركسية والداروينية) قد انهار واندثر وتجاوزه الزمن إلا أنهم (أي الملحدون) أبوا إلا أن يموتوا على ما شبوا عليه من الكفر بالإسلام،
والغريب في الأمر أن أكثرهم انقلب مباشرة من الإلحاد الشيوعي إلى التثليث المسيحي، ومن الدفاع عن الاشتراكية إلى الدفاع المستميت عن الرأسمالية المتوحشة واقتصاد السوق الموبوء بالجشع والتنافس اللا أخلاقي، والتاريخ يشهد أن الإلحاد الشيوعي والاشتراكية ما قاما إلا كرد فعل على جهالات الكنيسة والنظام الإقطاعي الرأسمالي الظالم، ولم يفكروا في العودة إلى دين أجدادهم، دين الوسطية والاعتدال والأخلاق، لأن عقولهم طعّمت بأفكار مضادة للإسلام وحده.
ومنهم المتغرِّبون
الذين رباهم الاستدمار وفصلهم عن أصولهم الإسلامية وانتمائهم الحضاري، فهم ينظرون بتعالي واحتقار لكل ما هو إسلامي، وأحسن رأي لهم فيه هو أنه فلكلور وتقاليد تعبر عن الماضي، والفئتان السابقتان (الملحدون والمـتغرِّبون) وجهان لعملة واحدة في كراهية الإسلام والعمل ضد تياره،
وبما أنهما الفئتان اللتان فرضهما الاستدمار (المسيحي أو الشيوعي) على الأمة وجعل مقاليد أمورها الثقافية والسياسية والعسكرية بأيديهما، فهما تعملان دائما على لي رأسها الى الخلف، وكبحها عن الانطلاق والسير في السبيل الذي يوافق مقوماتها الحضارية، (تأمل ما يجري في تركيا) فهما في الحقيقة يدان لاستدمار مقنع غير مباشر،
المستدمرون لم ينسحبوا حقيقة من الدول الإسلامية،
بل انسحبوا ظاهريا بتمثيلية الاستقلال، وأوكلوا المهمة القذرة المتمثلة في تدمير المقومات الحضارية الإسلامية للأمة إلى أذنابهم وأتباعهم من الفئتين، فهم الذين كبّلوها، و فرضوا عليها التبعية للغرب، وجرجروها في المآسي والمخازي باسم التقدم أو الاشتراكية أو العلمانية أو العولمة،
حيث غرّبوا التعليم والإعلام والثقافة، وأفسدوا الإدارة ودمّروا الاقتصاد، وقد نجحوا في ذالك نجاحا باهرا، فمثلا ما عجز عن تحقيقه الاستدمار الفرنسي في الجزائر طيلة قرن وثلاثين سنة حققه أتباعه في أربعين سنة فقط وبقوة، ويظهر ذلك جليا في أزمة القيم والأخلاق التي نعاني منها في بلادنا والتي من آثارها:
الانتشار العلني للرذيلة، التفكك الأسري وندرة التكافل بين أفراد الأسرة والمجتمع، طغيان الدافع المادي في سلوكيات الناس، انعدام الغيرة على العرض والوطن والدين، بروز ظواهر غريبة عن مجتمعنا لم تظهر حتى في عهد القهر والإذلال والتجويع الاستدماري، كظاهرة الانتحار، التخلي عن الأولاد، هروب البنات، زنا المحارم،اعتداء الأبناء على ذويهم والتلاميذ على أساتذتهم….. الخ.
نزع القناع
وفي الآونة الأخيرة فرضت ظروف عودة الاستدمار المباشر على أولئك الإذناب والأتباع نزع القناع والانحياز العلني إلى أعداء الأمة ضد شعوبهم، ولا أدل على ذلك من الظاهرة الدحلانية، المالكية الكرزائية، البرويزية، السنيورية و البنعلية…الخ وقس على هذا المنوال ما لا يخفى على أحد في كل بلد عربي وإسلامي إلا ما رحم ربي.
والمثير للاستغراب أنهم يزعمون أنهم مسلمون رغم موقفهم الطافح بالعداء للإسلام والمسلمين،
بل راحوا ينتهكون قداسة الإسلام ويميِّعونه بأسماء ومصطلحات التناقضات مثل:
مسلم شيوعي، مسلم علماني،
وربما دفعهم الاستهتار واللامنطق إلى القول: مسلم ملحد، مسلم مسيحي، مسلم يهودي. مسلم بوذي،
لأن عند هؤلاء المتعالين كل شيء يهان به الإسلام ويحتقر به المسلمون ممكن وجائز.
وفي أمثال هذا الصنف من المحسوبين على الإسلام قال عز وجل:
{ومن النَّاس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين يُخادعون الله والذين آمنوا وما يَخدعون إلا أنفسهم وما يشعرون في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضا ولهم عذاب اليم بما كانوا يكذبون وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنَّما نحن مصلحون ألا إنَّهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون}
(البقرة)
وإذا كانوا مؤمنين حقا فلينظروا أين هم من قوله عز وجل:
{يأيها الذين ءامنوا لا تتَّخذوا اليهود والنّصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولَّهم منكم فانَّه منهم إنّ الله لا يهدي القوم الظّالمين فترى الذين في قلوبهم مرض يسارعون فيهم يقولون نخشى أن تصيبنا دائرة فعسى الله أن يأتي بالفتح أو أمر من عنده فيصبحوا على ما أسرّوا في أنفسهم نادمين}
(المائدة 51 – 52)
ومن المحسوبين على الإسلام الغوغاء والدّهماء من أتباع الطرقية والمذهبية والأحزاب السياسية، عباد الأضرحة والأولياء والزّعماء، الذين تركوا صراط الله المستقيم واتّبعوا طرقا وسبلا ما أنزل الله
بها من سلطان، ونسوا قول الله تعالى:
{وأنّ هذا صراطي مستقيما فاتّبعوه ولا تتَّبعوا السُّبُل فتَفَرَّقَ بكم عن سبيله ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون}
(الأنعام 153)
فصاروا طرائق قددا باسم التصوف أو التمذهب أو التحزب أو الدعوة، والنتيجة المأساوية من ذلك (إضعاف الإسلام بتفتيت وحدة المسلمين)، فهم عندما يدعون إلى الإسلام لا يدعون إلى الله ورسوله وكتابه،
إنما يدعون إلى طرقهم ومذاهبهم وأحزابهم، لذلك تجدهم يتنافسون ويتنازعون ويلعن بعضهم بعضا،
وكل طائفة تتهم الأخرى بأنها ليست على شيء، حتى في بلاد الكفار حيث يكونون أقليات،
فهم عقبة كؤود في طريق الإسلام، لأنهم حولوه إلى أنواع كثيرة من الإسلام والراغب في اعتناقه يحتار أي إسلام يختار
{استحوذ عليهم الشيطان فأنساهم ذكر الله أولئك حزب الشيطان ألا إن حزب الشيطان هم الخاسرون}
(المجادلة 19)
نسوا قول الله عز وجل:
{منيبين إليه واتقوه وأقيموا الصلاة ولا تكونوا من المشركين من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا كل حزب بما لديهم فرحون}
(الروم 31)
فهم قد لبسوا الإيمان بالشرك، شأنهم مع الإسلام شأن المشركين في الجاهلية مع دين إبراهيم عليه السلام فهم كما جاء في سورة يوسف
{وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون}
(يوسف 106)
نعم مشركون لأنهم عبدوا غير الله، شعروا بذلك أم لم يشعروا، تعمدوا أم اخطئوا
كيف نصنف عقائديا طرقيا يخشى وليه الحي أو الميت أكثر من خشيته لله،
ويتوكل عليه في جلب المنفعة ودفع المضرة أكثر من توكله على الله، فيحج إليه ويتضرع له ويقدم له القرابين؟.
كيف نصنف متحزبا يزعم أنه إسلامي يعلن صراحة أن برنامجه الحزبي مستمد من برنامج فلان أو علان، وليس من شريعة الرحمن،
ويلغو ويلغط في حملته الانتخابية معرضا تماما عن كتاب الله عز وجل وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم؟
فأين الحد الفاصل بين الإيمان والكفران، بين التوحيد والشرك في التشريع؟
أم هي المصلحة الحزبية الضيقة ولو على حساب الدين؟
قال عز وجل عن أهل الكتاب
{اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله}
ذلك لأنهم كانوا يحلون لهم الحرام ويحرمون عليهم الحلال أي يشرعون لهم من دون الله.أو يستمد برنامج حزب إسلامي من برنامج يحل الخمور ويبيح الفجور ولو بالسكوت عنها؟ قال عز وجل:
{أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله}
(الشورى 21)
على الأقل أثبتوا على الحق واصبروا وانتظروا حتى يحكم الله إذا تعذر تغيير الواقع بالإسلام، ولا تغيروا الإسلام بجاهلية الواقع خدمة لمصلحة حزبية تافهة موهومة.
يقول الشاعر واصفا حال الشعوب الإسلامية في عودتها إلى الشرك والشقاق الجاهلي:
شعوبنا انقلبت قطعان سـائمة تنساق صـاغرة للذبح كالغنم
لا بل غـدت شهبا حرقا لملتها عادت لعادتها عبـادة الصنم
غبراء قد وثبت للثأر ثــانية وداحس انتصبت ترمي لظى الحمم
ومن المحسوبين على الإسلام صنف آخر لا يهمه إلا الكدح من أجل متطلبات المعيشة كما تكدح البهيمة،
فهو في الظاهر ليس مع الإسلام ولا ضده، لكنه ضده بغفلته وتهاونه وإهماله لواجبه في نصرته والدعوة إليه،
ومن اهتم بشيء على حساب دينه فكأنما عبده دون الله ففي الحديث الشريف:
«تعس عبد الدرهم، تعس عبد الدينار، تعس عبد القطيفة، وعبد الخميصة، تعس وانتكس، وإذا شيك فلا انتقش، إذا أعطي رضي، وإذا منع سخط»
القطيفة والخميصة نوعان من الألبسة، إذا شيك فلا انتقش: إذا أصابته شوكة فلا أزيلت عنه،
والحديث دعاء على عبد المطامع الدنيوية بالتعاسة والنكسات وعدم الخروج من الشر الذي يصيبه.
وهؤلاء ينالهم قول الله عز وجل:
{فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات فسوف يلقون غيا}
(مريم 59)
فهم كما قال الشاعر:
عش كالحشيش أو الهوام أو البقر نهم وشره وانهماك في الوطر
وتجد للأسف في هذا الصنف أئمة وأساتذة ودكاترة شريعة ومسئولين على هيآت ومؤسسات إسلامية لكن لا يهمهم من وظيفتهم إلا الراتب الشهري والمقابل المادي، وليس لهم غيرة حقيقية على دينهم ولا طموح في نشره ونصره. قال تعالى:
{ألم يأن للذين ءامنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله وما نزل من الحق ولا يكونوا كالذين أوتوا الكتاب من قبل فطال عليهم الأمد فقست قلوبهم وكثير منهم فاسقون}
(الحديد 16)
ومن المحسوبين على هذا الدين أيضا طائفة سموا أنفسهم بالسلفية قاموا لنصرته بلا تبصر ولا روية بل بالادعاء والرياء زاعمين اتباع منهج السلف، لكنهم حادوا عن التصور الصحيح له،
فمنهم من راح يحارب العلوم الكونية وينفر الشباب منها باسم السلفية العلمية، ومنهم من لوى المفهوم الصحيح للجهاد الإسلامي وحصره في القتال بأي أسلوب ولو خالف قيم الإسلام وتعاليمه، فاضر كثيرا ولم ينفع شيئا.
والباقي فئة قليلة يمثلها (الأتقياء الأصفياء الأخفياء)
وهي التي تشعر بأمانة الخلافة على الأرض ومسؤولية التبليغ لهذا الدين،
لكنها مشتتة تعمل بصفة انفرادية تعاني من الغربة في مجتمعاتها،
لا يسمح لها بتجسيد أفكارها أو حتى الإعلان عنها والدعوة إليها،
فوضعية هذه الفئة في العالم اليوم كوضعية الصحابة في الجزيرة العربية في بداية الدعوة الإسلامية،
حين كانوا محاطين بالتنكر، مستهدفين بالأذى، وعلي هذه الفئة أن تتصرف كما تصرف الرعيل الأول رضي الله عنهم في تلك المرحلة،
حيث كانوا يحرصون على ترسيخ الإيمان في القلوب وذلك بربطها بالله حتى توقن بوجوده ووحدانيته،
وتشعر بقربه ورقابته، وبعظمته ورحمته وسائر أسمائه وصفاته، فتخشاه وتحبه، وتقدره حق قدره، وتستحي منه،
وتعمل صادقة على طلب رضاه، واجتناب موجبات سخطه،
وتخلص له وتتوكل عليه، مع التحلي بالفضائل والتواصي بالحق والصبر والثبات والتماسك.
وبذلك تصلح القلوب وبصلاحها تصلح الجوارح والأعمال والأخلاق والنيات، فيتشكل حزب الله الذي وعده الله بالنصر والفلاح والتمكين
{أولئك حزب الله ألا إن حزب الله هم المفلحون}
المجادلة 22)
إن هذا التحليل للواقع العقائدي للأمة الإسلامية يبين أن المسلمين اليوم يعانون من خلل في العقيدة، و من ضعف في اليقين، فهم في الغالب يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم، شأنهم شأن الأعراب الذين قال عز وجل فيهم:
{قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الإيمان في قلوبكم}
(الحجرات 14)
بل إنهم أسوأ من ذلك فلا إيمان حقيقي في الباطن ولا إسلام في الظاهر
فإيمانهم وراثي باهت بارد لا يقوِّم عِوجا ولا يصلح سلوكا ولا يدفع إلى تغيير ايجابي، وظاهرهم تقليد أعمى للكفار في كل المجالات إلا مجالي العلم النافع والعمل المنتج.
لذلك أقول وأؤكد أن الأمة الإسلامية في حاجة إلى إصلاح إيماني عميق بمثابة إعادة فتحها إيمانيا،
بترسيخ الثقافة الإيمانية فيها وتوسيعها حتى يكون كل فرد فيها على بينِّة من إيمانه،
يعرف ما معنى كونه مؤمنا، ولماذا اختار الإيمان الإسلامي على غيره، وما هي واجباته كمؤمن.
انه نظرا لأهمية الإيمان وأولويته في الإصلاح، مكث الرسول صلى الله عليه وسلم ثلاثة عشر سنة في مكة لا يدعو إلا إلى الإيمان وتصحيح العقيدة،
بنفي الكفر والشرك، وتصحيح ما نتج عنهما من سلوكيات وممارسات وصفات،
وحتى أثناء المرحلة المدنية استمر التركيز على ذلك، بإقامة الحجج والرد على الشبهات،
وربط الإحكام الشرعية بالإيمان، فكان الحكم الشرعي يأتي مسبوقا بـ«يا أيها الذين آمنوا)
أو متبوعا بـ«إن كنتم مؤمنين» أو بـ«التذكير بالجزاء والعقاب في الآخرة» أو «مع الدعوة إلى تقوى الله وخشيته»،
من ذلك مثلا قول الله تعالى:
{وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم}
(الأحزاب 36)
وقوله سبحانه:
{فلا وربِّك لا يؤمنون حتّى يحكِّموك فيما شجر بينهم ثمّ لا يجدوا في انفسهم حرجا ممَّا قضيت ويسلِّموا تسليما}
(النساء)
وقوله عز وجل:
{يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم..}
وقوْله:
{يا أيُّها الذين آمنوا كونوا قوَّامين بالقسط شهداء لله…}
وقوله:
{ومن يقتل مؤمنا متعمِّدا فجزاؤه جهنَّم خالدا فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعدَّ له عذابا عظيما}
(البقرة 93)
وقوْله:
{وما آتاكم الرَّسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا واتَّقوا الله إنَّ الله شديد العقاب}
وهكذا في كل أمر ونهي يذكِّر القرآن بقضايا الإيمان كمحفز على الامتثال.
وهذا الربط بين الإيمان والعمل موجود بكثرة في السنة النبوية أيضا،
من ذلك قول الرسول صلى الله عليه وسلم: «لا إيمان لمن لا أمانة له»،
وقوْله: «لا يسرق السّارق حين يسرق وهو مؤمن»
«لا يزني الزّاني حين يزني وهو مؤمن»، وقوله: «المؤمن من أمنه النّاس»……. الخ
وهذا باب واسع يتطلّب بحثا مستقلا لكثرة الآيات والأحاديث فيه، فلا قيمة للإيمان في الإسلام إذا لم يثمر العمل الصالح والخلق الفاضل،
ولا حافز على العمل الصالح والأخلاق الفاضلة كالإيمان الصادق،
لذلك أقول مؤكدا مرة أخرى أن من أولويات الإصلاح التركيز على إحياء الإيمان وترسيخ العقيدة بإظهار الحجج ونفي الشبهات اعتمادا على الأسلوب القرآني البليغ والمبسط من غير الخوض في تعقيدات علم الكلام والفلسفة، مع استغلال نتائج البحوث العلمية الكونية بالكيفية التي دعا إليها القرآن الكريم كما بينت سابقا.
يقول الإمام عبد الحميد رحمه الله تحت عنوان (إرشاد واستنهاض) ص 165 -166 – مجالس التذكير:
قد ربط الله بين الأسباب ومسبباتها خلقا وقدرا بمشيئته وحكمته لنهتدي بالأسباب إلى مسبباتها ونجتنبها باجتناب أسبابها، وقد عرفنا في الآيات المتقدمة بأسباب الهلاك والعذاب لنتقي تلك الأسباب فنسلم أو نقلع عنها فننجو. فان بطلان السبب يقتضي بطلان المسبب.
وقد ذكر لنا في كتابه أمة أقلعت عن سبب العذاب فارتفع عنها بعدما كاد ينزل بها ليؤكد لنا أن الإقلاع عن السبب ينجي من المسبب فقال تعالى:
{إلا قوم يونس لمّا آمنوا كشفنا عنهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا ومتَّعناهم إلى حين}
فبمبادرتهم للإيمان وإقلاعهم عن الكفر كشف عنهم العذاب. وأرشدنا في ضمن هذا إلى العلاج الناجع في كشف العذاب وإبطال أسبابه وهو الإيمان،
كما أرشدنا الله إليه أيضا في قوله تعالى قبل هذا:
{فلولا كانت قرية آمنت فنفعها إيمانها}
أي نجاها من العذاب وذكر قوم يونس دليلا على ذلك. وأرشدنا إليها أيضا في قوله تعالى:
{ولو أنَّ أهل القرى آمنوا واتّقوا لفتحنا عليهم بركات من السّماء والأرض}
فالإيمان والتقوى هما العلاج الوحيد لنا من حالتنا هذه لأننا إذا التزمنا هما نكون قد اقلعنا عن أسباب العذاب. ولا ننهض بهذا العلاج العظيم إلا إذا قمنا متعاونين أفرادا وجماعات فجعل كل واحد ذلك نصب عينيه وبدأ به في نفسه ثم فيمن إليه ثم فيمن يليه من عشيرته وقومه ثم جميع أهل ملته، فمن جعل هذا من همه وأعطاه ما قدر عليه من سعيه كان خليقا أن يصل إلى غايته أو يقترب منها.
ولنبدأ من الإيمان بتطهير عقائدنا من الشرك وأخلاقنا من الفساد وأعمالنا من المخالفات، ولنستشعر أخوة الإيمان التي تجعلنا كجسد واحد ولنشرع في ذلك غير محتقرين لأنفسنا ولا قانطين من رحمة ربنا ولا مستقلين لما نزيله كل يوم من فسادنا، فبدوام السعي واستمراره يأتي ذلك القليل من الإصلاح على صرح الفساد العظيم من أصله وليكن دليلنا في ذلك وإمامنا كتاب ربنا وسنة نبينا وسيرة صالح سلفنا.
- عمر بلقاضي يكتب: الظروف صالحة لدعوة إسلامية ناجحة - الأثنين _9 _يناير _2023AH 9-1-2023AD
- عمر بلقاضي يكتب: بين حضارتهم وحضارتنا - الأثنين _31 _أكتوبر _2022AH 31-10-2022AD
- عمر بلقاضي يكتب: آيات الله في الكون وواجب التّفكر والتّدبر «2» - الخميس _27 _أكتوبر _2022AH 27-10-2022AD