(لنبدأ)
- كيف أنتِ عمتي؟
- عليكم السلام! مَـن؟
- أشرف
- ياه! يا حبيبي! غبت عني كثيرا!
- معذرة عمتي! أنا مقصر فعلا!
- بيتك قريب يا بني، أم أن شهرتك أنستك أهلك؟ نحن لحمك ودمك!
- سأحضر إليك أقـبّل رأسك في أقرب فرصة! ولتسامحيني إن عجزت عن ذلك!
**
تجربة فريدة وأطمح لكتابتها! ثم أستغرب من نفسي هذا التطلع!
أجلس منكفئا أتأمل شاردا شمعة تتوهج! لسبب ما أشعلتها، وجلست أرقبها والنار بأعلاها تتمطى في اقتدار، وتزوي متنها لأسفل، بينما يرتفع اللهيب لأعلى!
غريب تلك العلاقة المتبادلة بينهما، كلاهما يفني الآخر ولا يشعر بذلك!
لا غالب ولا مغلوب،
فقط بضع ساعات وينتهي كل شيء! كل شيء!
تماسك يا رجل تماسك
**
أفتح “الحاسوب”! أسابق الزمن، أين تلك الأفكار التي كانت تتواثب في عقلي!؟
الصفحة بيضاء! كلما بدأت الكتابة تاهت الكلمات وخذلني الفكر! غريب هذا! ما أضعفني! فلأعد للمخطط كما كنت أفعل عند بدايات الكتابة؛ ولو بشكل تقليدي، مثل لعبة إكمال الصورة على المثال المرسوم!
كنتُ تجاوزت تلك المرحلة إلى رحابة التعبير التلقائي، الملتزم بالخط، والهاضم للأفكار، والمعبر عنها بأسلوبي الفريد!
وماذا بعد؟
عشرة فقط!
**
(تسعة)
حقا هل انتهى كل شيء؟
أبني من الأحلام قصورًا، وأؤمل نجاحات، وأخشى إخفاقات!
أودية الذهب المأمولة لم أنلها بعد! وما بيدي لم أتمتع به! أحب البعض ولما أخبره! وأكره البعض ولما أغلبه، أو حتى أسامحه!
أريد
وأريد
وأريد
فلماذا هذا الآن ولما أنتهِ!؟
أتنهد في يأس وتضطرب أفكاري
**
- تفضل يا دكتور أشرف.. لماذا تجلس بعيدا هكذا؟ هلم يا رجل! لماذا تبدو شاردا؟
أجلس متجاهلا ملاحظته، وبعد مجاملات طرحت فكرتي!
- جميل أن تفكر في هذا يا أشرف! أن تأتي متأخرا خير من ألا تأتي!
- نعم يا حسين تأثرت في هذا بمقولة أحد الرواد حين سأل نفسه فجأة: وماذا بعد؟
- ماذا يقصد؟
- يقصد ما قصده المفكرون في كل زمن! هل ستظل أفكارنا حبيسة أقلامنا وأوراقنا دون أن تجد سبيلها للتطبيق؟
- ناولني المشروب الدافئ، وارتشف قائلا: ولكن كثيرا من تلك الأفكار هي علم قد لا يصلح للتطبيق! على الأقل وفقا للواقع المعاصر، والظروف الحالية!
- نعم ينطبق هذا على كثير من البحوث العلمية والنظريات والأكاديميات! لكنني لا أقصد هذا!
تنفستُ متأملا وأردفت: أقصد أين نحن من العمل؟ العمل الحقيقي المدخر عند الله! العمل النافع للمجتمع!
العمل الذي يتجاوز التنظير والتأطير، وينزل للواقع، ويساهم في حل المشكلات، ويرشد ويعلم، ويتعلم أيضا، ويطـبّق ويطور!
النزول من الأبراج للواقع، والانخراط في الحياة بحلوها ومرها! هذا كل شيء!
- تأملني قليلا ثم قال: ما فهمته أنك ترغب في التبرع لجمعيتنا؛ وفقا لأفكار معينة! فهل هذا ما تقصده حاليا؟
- أنا جئت متعاونا لا منظّرا! خادما لا موجها! لكن وقتي ضيق فعلا! أريد أن أطمئن!
- في حيرة قال: تحت أمرك يا أشرف! قل وأسمع!
**
(ثمانية)
الطلاب، يجلسون أمامي وأنا أشرح!
هم يعرفون عاداتي في التدريس! لا أحب الأسئلة ولا التعليقات، ولا أن يقاطعني أحد! فليكن هذا لاحقا! هذا مفيد في توصيلي لما أريد قوله! ومريح كذلك في عدم الإزعاج! لكنهم يستغربون مني اليوم تشجيعهم على النقاش، وترحيبي بأسئلتهم!
لأول مرة أجد هذا التناغم بيننا! ورغم محاولة بعضهم التمادي إلا أن زملاءه أسكتوه!
سكتت هنيهة ونظرت متأملا: هل أنا الذي يتكلم الآن مشجعا ومعلقا ومبتسما؟
غريب هذا!
**
صوت القطار يدوي من محطته القريبة من الجامعة!
لماذا يصرخ هكذا؟ صوته مهيب حاسم!
تذكرت يوما -وقد شرد ذهني في “كافيتريا” المحطة – فإذا به يطلق صيحته ويغادر!
تركت ما في يدي وهرعت أجري بكل طاقتي!
في آخر لحظة صعدت إليه متوترا، وكدت أتعثر تحته؛ لكني أدركته على كل حال!
تذكرت وقتها أني ما دفعت ثمن ما شربت!
**
وقفت متأملا من يدخلون! أثبـّت الكمامة على وجهي في تردد، هل أدخل؟ وهل هذا مباح لي؟
الأذان يرتفع صادحا رقراقا، والمصلون يتدفقون وأنا أمامهم واقف متحير! أقدم رجلا وأؤخر أخرى!
أتذكر قلة مبالاتي بالصلاة وبجماعة المسجد! والآن حين أرغب فيهاأحرم منهاَ
مذاق الملح يغمر شفتيَّ متدفقا من أعلى، ويغمر الكمامة كأنه المطر!
ورجل مسن ينظر إلى متأملا، ثم يربت على كتفي وأنا (أنهنه)! يأخذ بيدي معه في رفق!
**
أكتب وأكتب وأكتب،كأن طوفانا من الأفكار تفجّر في عقلي فجأة!
ما هذا، هل هو اختبار؟! كيف أوازن بين رغبتي في الإنجاز الفكري وبين خطواتي العملية؟
أريد أن أتفرغ قليلا لغير الكتابة! ماذا أفعل؟
لا أرغب في الاستغراق، ويغريني التدفق،ولدي مواعيد كثيرة، ووقتي ضيق!
حقا: الواجبات أكثر من الأوقات!
بعدما نلت هاتفه من حارس العمارة! الجار يرحب بي في استغراب خفي! ويفسح لي المجال للدخول! كم كنت بعيدا حين سكن منذ سنين لا أتذكر عددها، ورحبت به وقتها بهز الرأس، وبابتسامة مرسومة غير مرحبة!
على استحياء سألته عن وظيفته، وعن حاله، وعن بقية جيراننا!
(سبعة)
- أرتعد وأرتعش وأخاف! حقا أنا مرتعب، أوراق الشجر تقفز في هدوء تاركة الأغصان عارية!منذرة بخريف خاوٍ!
**
عاتبا قال: وهل تذكرت يا بني أن لك زوجة وأطفالا؟
نظرت في خرس، وقلت كلاما في عقلي لم يخرج! وأردت أن أزوِّر خطبة عن علو الهمم، والانشغال بالشأن العام، وحياة المفكر، وكل هذا الهراء! فلم يخرج مني! وحسنا صمت!
تبرع هو بقوله: إن رسولنا صلى الله عليه وسلم كان يصلح أمة، ويربّها، ويمهد لإصلاح البشرية جميعا، ولم يشغله شأن عن شأن!
كان عابدا زاهدا، وفي الوقت ذاته كان مجاهدا وعاملا، وبالإحسان ذاته كان قائدا وملهما ومربيا، وبين هذا وذاك يكون في مهنة أهله: يخصف نعله، ويرقع ثوبه، ويحلب شاته! يتعهدهم ويعنى بهم!
تزوره أمنا صفية في معتكفه فيمشي معها يوصلها عناية وودا!
ويقرع بين نسائه لتسافر معه إحداهن، ويسابق عائشة رضي الله عنها ويضحك إليها، ويجيب دعوة بناته، ويشفق على زينب حين ترسل قرط أمها خديجة؛ فداء لزوجها أبي العاص، ويتفاعل مع ذلك! ويرحب بابنته فاطمة، ويقوم لها، ويسارها، ويضاحكها! ويعتني بأحفاده، ويلاعبهم ويحملهم ويقبلهم! ويبكي لموت ابنه وحفيده رحمة بهما، هكذا كان يحيا حياته بتفاصيلها؛ فلا ينشغل بشأنٍ عن آخر!
وتنهد في تأمل: تصور هذا؟
بشرود علقت: هذا مثال سامق، من يصل إليه؟
- كثيرون فعلوا واقتربوا ووفقوا! مشكلتكم أنكم تعقدون الأمور، إن هذا يفهمه بداهة أناس يخلطون العمل بالعلم – حتى بسطاء الناس – كل بقدر ما أوتي من وعي!
**
بقيت سبعة، فقط ما أسرع الأوقات
**
أمشي في حديقة غناء قريبة! ما هذا الجمال؟
أشجارها باسقة خضراء داكنة، وتحت كل منها دائرة تحيطها من نباتات ألوانها قرمزية، تحيط بها دوائر أكبر من نباتات أخرى خضراء لونها فاتح! وعلى الصفين زُرعت ورود مبهجة، بألوان زاهية، بعضها له لونان متدرجان بين الأصفر والبني، وبعضها أحمر قانٍ! وفي المنتصف زهور بيضاء ناصعة! وبين كل مستطيل زرعوا زهرة “التيوليب! بقوامها الممشوق، في تبادل جميل مع الزنابق!
هذا مهندس مبدع أحسن التنسيق؛ لكنه استفاد من جمال بثه الله تعالى في الكون!
تذكرت طفولتي يوم كنت أقف مبهورا عند بائع الفاكهة، أتأمل تدرج ألوانهاوهي معروضة بين عنب أخضر وأحمر، يحيط به تفاح أحمر وأصفر، ويجاوره مانجو موشًّى بالصفرة والحمرة، ويتلألأ بجواره صفوف الرمان، وقد فتح بعضها ليغرينا بتناسقها حول البطيخ الأخضر!
الله جميل يحب الجمال! فهل أحب أنا الجمال؟ وهل سأحرم منه!
**
(ستة)
مُذ شاع هذا الوباء وأسمع كلاما كثيرا! مؤامرة بدليل كذا وكذا، العلماء ينتحرون ويقال
يقتلون! نظام العالم يجري تغييره! وحديث عن شريحة تزرع بدعوى التطعيم!
حتى منظمات الطب وكبار العلماء احتاروا، وتضاربت تصريحاتهم بما يثير الشك، وبما يثبت نظرية المؤامرة!
تدفقات طبيعية لوباء لا يد لأحد في نشره!كفوا عن نظريات المؤامرة! ألا ترون الواقع أبدا؟
لكن شأني مختلف!حقا مختلف!
**
أجلس محبطا والآلام تعصف بعقلي وجسدي!
لم كل هذا التعب والجهد؟ إنني أزيد الأمر سوءا!
هل ما أفعله هو الصواب؟
لِـمَ لا أستشيرهم؟
وتذكرت ليالي السهر لامتحانات الجامعة حين كنت وقتها أشد بعزم من همتي، وأجتهد اجتهادا لم يخطر ببالي صدوره مني!
وكنت أنجح وأتخطى وأتفوق!
فلم لا أفعل ذلك اليوم وأنا بحاجة عظمى لمثل هذا الاجتهاد؟
- كبرت سنك وضعف عزمك!
- لا!
هلم فانهض واجتهد، ولا تترك مجالا للضعف والخور! وتذكرت الأمثلة السامقة التي ذكرها حماي!
**
تخصصي النظري أغرقني في فلسفات وكلاميات أشعر بها عبئا علي الآن!
نعم كم ضيعت من وقت في بحث وترهات وفكر وفلسفات! وتذكرت قول “الرازي” وأنا أستحضر حاله:
ليتني من قبل جلست متأملا في الكون وعظمته،وقدرة خالقه في تصريف حاله! لأشعر بنفسي تسبح في ملكوت السموات!
فتراقب العظمة من الذرة للمجرة!
وترى الجمال في الخلق والجماد!
وتشاهد الحكمة في الإعطاء والمنع! والتصريف والقدر!
**
لم أشعر به من قبل وكأني لم أره سابقا! ذلك الجار وقور المحيا، مشتعل الرأس شيبا!
ماذا عساي أن أفعل له وقد حياني، وبكرم دعاني لأزوره في منزله المتواضع بجوارنا!
لم طلب مني هذا؟ وفتشت في عقلي فلم أجد مبررا! ولكني أجبته!
لم أتعذر بمشاغلي تلك الحجة الصادقة التي أراها الآن “غريما” يعزلني عن الناس!
لماذا تقيدني تلك العزلة بينما توجههي الجديد نحو العمل يبدأ بمثل هذا؟
أجلسني على أريكة ثكلى، وقدم لي شايا شهيا في كوب قديم نظيف، وجاذبني أطراف الحديث!
حديثه رائق راق رغم بساطته !
بأوهام العليم بلغة الإشارات خطر ببالي أن أساعده بمال؛ إذ استراح عقلي لهذا التفسير لدعوته، فلسان الحال يغني عن المقال، ومبديا تفهما لشدة الظروف، وتغير الأحوال، وأن معاشات كبار السن لا تكاد تكفيهم!
بلطف حازم ردني – فأحرجني- مذكرا إياي بأن البركة في العمر والرزق منحة أخرى منحناها الخالق! فرب مال تكتنفه البركة أعظم نفعا من أموال الأغنياء وريشهم؛ وأنه دعاني للزيارة لما بلغته سمعتي الطيبة من جيراني الذين زرتهم، ويلتقيهم هو ما بين المسجد أو الزيارات!
سكت متعلما ومستغربا من تبدل سمعتي بين الجيران!
ومما قاله لي: إن فلسفته في الحياة أنه اتخذ وصية رسولنا صلى الله عليه وسلم لأحد أصحابه: أمسك عليك لسانك!
وليسعك بيتك!
وابك على خطيئتك!
وتأملت تلك الوصايا مبهورا! إنها تلخص فلسفة البشر وملاحقتهم للسلام النفسي حقا!الحلول قريبة، والسراج نابض طيلة الوقت، لكنْ على أعيننا غبش!
جلست بعدها أبكي على خطاياي!
**
(خمسة)
وكأن تأملاتي في الشمعة صارت طقسا يوميا! أعيد إشعالها وأجلس أراقبها وأسرح!
كأن اختلاجها أمام عيني يلهمني، أو يعذبني!
أتشاغل عنها ببعض ما أكتب؛ لكني أعود فأراقب تلك الذوائب على كتفيها كأنها انسدال شعر فاتنة، فاتنة تذوى في بطء وإصرار على الفناء!
كيف أنهي ذلك الانزواء وأوقف النتيجة الحتمية للتلاشي! أقرب أصبعي من اللهب لأشعر به عمدا ! وبعصبية أطفئها وأجلس أراقب الدخان الأسود!
**
نظر إليّ بفتور وأنا اداعب شعره: نائل يا بني: قد كنت انشغلت عنك سابقا؛ لكن من الآن سنكون معًا! وضممت ابنتي إلي بذراعي الآخر، وهما يطالعان أمهما التي ابتسمت مشجعة، فاندمجا معي، وقضينا الليلة نتمازح ونتكلم ونتلاطف، وأنا سعيد، بينما قلقي لا يتوارى عن قلبي!
**
قال حسين بعدما رحب بي وبنائل، ومدح اصطحابي له ويقرأ ما كتبت: مدرسة متكاملة لرعاية المواهب، وصقل المهارات، وتربية الجيل على القيم والوعي المجتمعي والفكري؛ ببرامج متخصصة، توازن بين المنهج التعليمي، والتفاعل التطبيقي، والقدرات والتوجيه العلمي المبكر للمواهب! وكل ذلك وفق برنامج خيري!
يرفع رأسه وينظر إليّ: هي فكرة رائدة ورائعة يا أشرف!
مسحت وجهي متمتما بالحمد؛ فقد خشيت ألا يتشجع!
أضاف وهو يطلعني على أوراق دراسته المبدئية: وإسهامك الكبير معنا في تكلفتها سيعجل بخروجها للنور قريبا!
أردف في ارتياح: فكرتك في الاستثمار الخيري جميلة؛ لعلها تعوض فارق الخدمات التي تقدم بأموال باهظة لا يقدر عليها إلا الأغنياء!
قلت له: وأنت تعلم أني أضع اللبنة الآن، وأن إكمال المهمة عليك!
تأملني في صمت حزين!
**
(أربعة)
وهل تكفي تلك السويعات المتبقية! صفير القطار يدوي في أذني يكاد يصمني وقدماي لا تقيمان صلبي!
**
بريبة طالعني! هل حقا جسرت على المجيء إليه!؟ منافسه العتيد ومخالفه فكريا!؟
دوما بارزني ودوما انتصرت عليه، استخدمنا كافة الأسلحة المشروعة والممنوعة!
قليل من النفوذ يعزز المواقف! لا، لم نصل للهمجية أو التدني أو الضرب تحت الأحزمة؛ لكننا دنونا من هذا فعلا!
هل كان السبب المال أم إثبات الذات أم التنافس!؟
أم كل هذا؟
سألني: وماذا تريد؟!
وتردد السؤال في ذهني: ماذا أريد حقا؟!
**
اعتدت خطواتي إلى المسجد وهو ليس بقريب، كنت أشعر دوما بحاجتي للذهاب، والآن حاجتي أشد وكنت أصطحب نائلا غالبا، وأخته أحيانا!
نعم أذهب لكل الصلوات!
مرات أراقبهم من بعيد، ثم لا أجرؤ على الدخول معهم،ومرات أغلب جانب الأمل بأن الأمر لم ينته بعد! فلم أحرم نفسي من ذلك الفضل؟
كنت محروما! ومشتاقا!
**
أخبار الوباء -أو شبه الوباء- وانتشاره مسيطرة على الأجواء:
الحكومات تمنع الحركة!
وبعضهم يحظر التجوال!
أكثرهم يمنعون السفر!
الدراسة تعطلت!
التجمعات مُنعت!
الزيارات حُجّمت!
التجارات – عمليا – توقفت!
حتى المساجد أُغلقت!
ما كل هذا؟
والذعر مستشرٍ، وينمو ببطء، والناس يؤثرون السلامة على المغامرة!
حتى المستشفيات باتت لا ترحب بزوارها، واكتفت بتقديم العلاج باهظا لمن يدفع!
وكيف يدفع إنسان – مهما بلغ غناه – ثمن إقامة يومية تعدل راتب موظف كبير لعام؟
إنه الجنون!
الظروف كلها غير مواتية، والتحرك محدود، والاستجابات ضعيفة!
وأنا وقتي ضيق، فكيف أقوم بما أريده في تلك الأجواء؟
رباه ماذا أفعل؟
**
أرتعد فرقا! يهتز جسدي، يقشعر جلدي! تضطرب أنفاسي، يجف حلقي!
خائف
خائف
خائف
**
مذ عادوا للبيت ولم أجلس معها طويلا! كأنها لقاءات عابرة؛ وإن انصب اهتمامي على التبسط معها ومع طفلينا!
لم أشأ أن أقص عليها ما يجب أن تعرفه من البداية؛ لكن الأمر يجب أن يتم!
أهديتها باقة ورد جميلة فوضعتها بعناية بجوار فراشنا!
جلست وأشعلت شمعة بيننا فابتسمت وقالت: أفتقد الأجواء “الرومانسية” القديمة!
ابتسمت في مرارة! وشردت في شعلة الشمعة تتراقص في تردد!
أخذت شهيقا وتكلمت!
**
(ثلاثة)
محبطا تلقيتُ الخبر وأنا أجلس إليه مع نائل في مقر الجمعية بعد تنفيذ التباعد والتطهير الموصى به: لم يوافقوا؟ من! ولماذا؟
حسين بتردد: لا أدري كيف أقول ذلك! لكن هناك موافقات للأعمال العامة يجب أن يستشار فيها جهات معينة! أنت تفهمني أليس كذلك؟والجواب المقتضب على طلبنا جاء بعدم الموافقة دون إبداء الأسباب!
- غريب هذا، أين نعيش؟ ومن يحق له منع أعمال الخير التي تدفع المجتمعات نحو الأفضل! تربية أجيال على الإفادة والوعي وتبني المواهب وترشيدها؟ من يمنع هذا ولماذا؟
زم “نائل” شفتيه وأرهف متابعا الحوار فهو أصغر من أن يعلق!
- قلت: عدم تقليدية الفكرة قد تثير المخاوف؛ وخاصة أنها تختلف عن النظم التعليمية المعتمدة هنا!
يمكننا التفاهم حول هذا: مثلا أن نعتمد نظام دراسة على مسارين: المسار المعتاد ومسارات أخرى موازية تبنى على أساس الفكرة في أوقات أخرى؛ كأي نظام تضيفه المقررات الخاصة في الأكاديميات والمدارس العالمية!هذه فكرة شائعة!
- اعتدت يا أشرف في ظروفنا هذه ألا أجادل كثيرا!لا فائدة من هذا، دعنا نبحث في خيارات أخرى! عندك مثلا الرعاية الطبية للمحتاجين! المساعدة المباشرة للفقراء!
- هذه أعمال تقليدية يقوم بها المحسنون! كنت أطمح لفكرة مبدعة تفيد وتنمي أجيالا!
- نعم لكن ما ذكرته لك من أفكار مهمة والحاجة إليها ماسة!
- هي في حسباني وسوف أساهم فيها!لكن فكرتي لو عممت لأحدثت فارقا واضحا!
- نظر في عيني طويلا وقال ببطء: من خبرتي في الأعمال الخيرية أن راغبها يتعرض لاختبار أو أكثر بظروف كهذه! لعله اختبار رباني لصدق النية؛ وليشعر المرء بأهمية ما منح من الخير!
تنهد وأردف: أنت شخصية معروفة ولك طموح كبير، وعلاقاتك مميزة! ونحن نعرف حدودنا! فلعلك تسعى بنفسك؛ عسى أن يفتح على يديك في هذا!
قلت في نفسي: نعم لكن وقتي ضيق حقا!
**
أقف لأصلي وأجتهد في الخشوع والذكر وأجلس جلسة طويلة بعدها!
- يا رب اغفر لي تقصيري وغدراتي وفجراتي؛ فإنه لا يعظم عليك شيء!
**
- قالت دامعة: وكيف كتمت هذا عني؟
- لم أكتمه؛ لكن الظروف تسارعت منذ الوعكة التي مررت بها وأنتِ غائبة! وظننتُ أني أعاني من علامات الإرهاق المعتادة! فقد شعرت فجأة بالغثيان، وتبعته سريعا آلام شديدة، وضيق في الصدر، مع كثرة تعرق! ثم امتد الأمر لآلام في الذراع، وضيق التنفس، فلما بلغ الحد هذا سارعت إلى المستشفى – رغم مرور أعراض خفيفة مثلها من قبل ذلك – واستدعيت طبيبا مشهورا! وبعد عمل التحاليل ورسم القلب ليشخصها بأنها “الذبحة الوعائية”: قصور شديد في الشرايين التاجية!
- بلعت ريقي، وأنا قلق لتوترها، ثم همست وكأني أخفف من حدة الأمر بترقيق لهجتي: ثم بعد أيام من التعافي والعودة للحياة – مع توصيات بالهدوء والراحة – ظننت أن المشكلة ستمر وتنتهي؛ إلا أنني أصبت بالأزمة القلبية بعد شهر، فسارعت إليهم مرة أخرى وتم عمل قسطرة تشخيصيةً على شرايين القلب!
- قالت: تعرف أن أمراض القلب من أمراض العصر المعتادة! والحمد لله أن الطب تطور في هذا المجال!
- ولكن الطبيب قال لي: يبدو أن الشرايين وتصلبها أفسدت عضلات القلب، وأن ما أمر به هو مرض القلب التاجي، الذي يصيب أوعية الدم تلك التي تغذي عضلة القلب؛ مضافا إليها تصلب الشرايين المحيطية للأوعية الدموية، التي تغذي الذراعين والساقين! ومن ثم فإن تجمّع تلك الأعراض على القلب أحدثا الأزمة، وكاد يوقفه! بل توقف للحظات بالفعل!
شهقت واغرورقت عيناها بالبكاء ولم تعلق!
استطردت: وغبت وقتها عن الوعي؛ وكدت أموت لولا فضل الله تعالى ثم وجودي بالمستشفى! فسارعوا بإفاقتي! وكان القرار بعد العلاج العاجل وعمل قسطرة على شرايين القلب!،أنني بحاجة إلى عملية قلب مفتوح خلال عشرة أيام تقريبا، ويجب ألا نتأخر عن أسبوعين وفقا للتشخيص!
وقال طبيبي أيضا: لا بد من تركيب جهاز صدمات للقلب؛ ليعمل تلقائيا حال توقفه المفاجئ، وليعمل منظمًا للضربات كذلك!
فوجئت بهذا وبقلق سألت: وما مدى نجاح هذه العملية؟ وما إمكانية تجنبها أو تأجيلها؟
- لا أظن بالإمكان تجنبها؛ وإلا فالموت حتمي! وأما عن نجاحها فنسبته كبيرة في الأوضاع الطبيعية/ بينما مشكلتي الأساسية كما ذكرها الطبيب أن الأوعية الدموية المسدودة تجعل حاجتي لعملية توسيع الشرايين مع تركيب الجهاز وحالة العضلة الضعيفة،كل ذلك يرفع نسبة الخطر؛ لأن ثلث وفيات الأمراض يحدث نتيجة هذه الأعراض! لكن لا يحول هذا دون الأمل بالنجاح! وبكل الأحوال حددنا الموعد بعد عشرة أيام، بقي منها ثلاثة فقط!
زاد بكاؤها وقالت: وهل ستتم العملية في وقتها؟ لماذا لم تخبرني إلا الآن؟
أنا في سباق مع الزمن، فاعذريني! وأريد أن أصحح كل مساراتي، وأضبط كل أموري؛ فإن أنا مت فقد حاولت واستفدت من الفرصة، وإن عشت أكملت ما بدأته، وفتحت صفحة جديدة؛ فكوني عوني وسندي!
بين دموعها قالت: معك يا أشرف، أنا معك!
**
ما لم أقله لها أن وجود الوباء المتنامي؛ مع ضعف قدرتي على المقاومة يجعلني فريسة سهلة له! فأنا بين خطرين: أن يصيبني الوباء، أو أن تتكرر الأزمة القاتلة! ولذا أمرني طبيبي بالاعتزال، وهو ما خالفته لرغبني في إصلاح الأمور قبل العملية!
وجلست أتأمل باقة الورد!
**
(اثنان بقيا)
قلت لنائل: بني: أنت أملي فيما كلمتك عنه، لست صغيرا؛ فكن رجلا، إن أنا مت فأكمل مشواري مع صديقي حسين وبمعاونة أمك! لا تتهاون في ذلك أبدا!
داعبت شعره الجميل، وأردفت كأنما أكلم نفسي: ليتني من قديم ربيتك على هذا، وبثثت فيك العزم لتصير رجلا جلدا! لكني أصحح الآن مساري؛ فهل ستساعدني؟
قال متجلدا: نعم يا أبت أفعل!
ثم نهض فدفن رأسه في صدري وبكى!
**
المسؤول الكبير ينظر إليّ وأنا أشرح بحماس، دون أن أنتبه لبروده إلا بعدما انتهيت! وقال بلهجة تبدو متفاعلة، ولم تخل من التحفظ الرسمي الذي أمقته: يا دكتور أشرف: الظروف تتغير في البلد، ومراكز التأثير صارت متعددة، وفكرتك لا تلقى حماسا لدى بعضهم!
- ممكن أعرف من؟
أردف كأن لم يسمعني: في العمليات التعليمية هناك معايير تضعها بيوت خبرة عالمية، وتنفذها الوزارات! وبالطبع لا أخفيك أن جهات خاصة ومتنفذة لها مصالح!
- سيدي: نحن في الجامعات لدينا حريات كبيرة في اختيار المناهج وطرق تدريسها! ولم أتصور أن المدارس ستكون أعقد! ظننتها أهون!
بابتسامة العليم بالخوافي قال: هذا ما يظهر لك؛ لكن الأمور لها ضوابطها المتحكم فيها حتى لو بدت غير ذلك!..مثلا هناك تخصصات معينة يتم التحكم فيها وربما إلغاؤها!
- الموضوع كبير إذن!
- ربما أكبر مما نتصور!
نفضت رأسي لأركز: لا أريد أن نتشعب في كلامنا، أو نناقش مشكلات كبيرة ووقتك ضيق ..كل ما أريده أن تساعدني في تخطي العقبات ليخرج المشروع للنور!
- قال بتحفظ: أعدك أن أجتهد.
- وأنا مستعد لكافة المتطلبات، وضغطت على الكلمة التالية “والمصاريف”
**
لم أشف غليلي!.فما لهذا الصداع يداهمني؟ رباه ساعدني!
**
أستلقي على فراشي وأتابع شريط حياتي! الطفولة! الفتوة! الشباب، الكهولة!
شد ما تغيرنا الأيام وسرعان ما تمر الأحداث!
حين تكتشف فجأة أنك كنت غافلا عن معان كثيرة! كنت متعنتا وربما مغرورا مستكبرا! وحين ترى حياتك مجموعة من الأوهام كنت تنسجها وهي في حقيقتها تافهة لا قيمة لها فتسائل نفسك: ترى هل تكفي سويعات من اليقظة بعد تلك الغفلة لتصلح ما فسد
وهل تكفي نيتك تلك لتغفر لك خطايا وتكلسات من الأوهام!؟
رباه هل تغفر لي؟ وهل تمنحني الفرصة مرة أخرى للاستقامة!؟
شعرت كأن هاتفا يذكرني بأن باب التوبة مفتوح، وأن الله تعالى رؤوف رحيم يغفر الذنوب جميعا! أبتسم وأغفو على أمل!
**
(الأخير)
اليوم الأخير! نعم أعتبره كذلك فعوامل الخطورة كبيرة!
أراقب باقة الورد بجواري وقد دب فيها الذبول؛ فأشعر بخمول وإحباط!
هل هو اليأس؟
أنشغل بالذكر والاستغفار، إنها سويعات أريد أن أغتنمها للنهاية!
ربما أنا محظوظ إذ الإرهاصات التي مضت تحذرني وتزيل الركام عن قلبي!
نعم كانت فرصة طيبة أن قرعت جرسًا لتنبهني؛ فرب نهايةٍ جـبّت ما بالبدايات من قصور!
أتأمل باقة الورد ثانية فأنتبه إلى تفتح وردات نمت في تلك الأيام، وأينعت جنبا إلى جنب مع الذابلة، ربما بعد يوم واحد تحل محلها!
الأمل باق لا ريب فيه!
**
انتهيت اليوم من كتابي المختصر الذي شرعت فيه مع حلول الأزمة، وقد جمعت فيه خبرات عملية ونظرات تأملية بمنطق علمي متأدب، لم أعتده من قبل؛ لكني أنجزته على كل حال،كم تفجرت لدي من طاقات في تلك الأيام!
فهل………….؟
**
كأنه اتصال مودع، أعيد التواصل مع أقاربي وأصدقائي، ولم أذكر شيئا عن الغد! ولكن سألني غير واحد: ما بك؟
- أنا بخير، أطلب منك السماح!
- جملة قلتها ووجدت بعدها ثلاثة منهم وعمتي المسنة أيضا يأتون للدار من غير اتفاق، بعدما شعروا بالقلق من لهجتي، اضطررت أن أقول لهم طرفا مما أنا مقبل عليه؛ وقد كنت أزمع التكتم!
ورغم فرحي بهم إلا أنني جلست محتويا طفلي متمتما ألهج بالذكر!
**
أحاول أن أتغافل عما أنا مقبل عليه، جراحة قد تعدل من شأني أو ألقى فيها حتفي، مسابقة وانتهت، قمع الساعة الرملية قد نفد فهل يدار للجهة الأخرى أم يترك فارغا!
(صفر)
أنخلع من ملابسي إلا من ثوب الجراحة الذي بدا لي ككفن!
ومعها أزيحت كل ألقابي، وما أملك من متاع الحياة! حتى أوراقي تركتها لهم وكل أسراري كشفتها لهم!
ووقفت أراقب حذائي بعد إذ خلعته وكأنه آخر ما يصلني بدنيا البشر! وغدوت عاريا فقيرا ضعيفا أحتاج للعون، وبعد قليل أفقد حياتي ذاتها، ربما!
وبدت لي الدنيا ضئيلة حقيرة، لا تساوي ما ألبسه من ملابس قد يتخلصون منها لاحقا! وإذا بزوجي وابناي يبتسمون في تشجيع!
كنت قلقا! وكانوا كذلك؛ ولكن التغافل كان يحدونا ..ولعله الأمل!
**
أستلقي على عربة التمريض، ويتحرك بي الممرضون مع خطوات أسرتي، وجدهم معهم!
وبينما الركب يمضي إذا بصفين رأيتهما من بعيد يكتنفان الممر، وبيد كل منهم باقة ورد، وعلى وجهه ابتسامة مشرقة حنون! بعض طلابي! وحسين، وأخلص أصدقائي، وجيراني وبعض أهل المسجد، حتى أنت يا عمتي أتعبت نفسك، من أخبرهم جميعا!
أجلس ويمنعني الممرض من الترجل فأشير إليهم بابتسام!
ويمضون بي، يحدوني أمل، وعزم!
————–
د. ياسر عبد التواب
28/7/2020