- عبد الله زين العابدين يكتب: منهج التزكية بين الغزالي وابن القيم - الأثنين _15 _يونيو _2020AH 15-6-2020AD
- عبد الله زين العابدين يكتب: الغلو في الصالحين طريق الشرك - الأحد _16 _فبراير _2020AH 16-2-2020AD
لم يتضمن القرآن قسمًا لرب العزة تبارك وتعالى أطول من ذلك القسم في سورة الشمس، إذ قال {وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا (1) وَالْقَمَرِ إِذَا تَلَاهَا (2) وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا (3) وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا (4) وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا (5) وَالْأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا (6) وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا} [الشمس: 1 – 8].
وكان جواب القسم {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} [الشمس: 9، 10]، فقد أقسم – ولا يحتاج- بأن تزكية النفس هي طريق الفلاح.
بيد أن منهج التزكية كشأن كثير من القضايا الروحية، يتجاذبه طرفان، طرف التزام الهدي النبوي في طريقة التزكية، وطرف الافتئات على الشريعة بفعل الفلسفات الدخيلة والخلل في مصادر التلقي.
وأمامنا نموذجان لمنهج التزكية، كل منهم يُمثل مدرسة في ذلك المضمار، كلاهما يحتاج إلى البيان والتوضيح.
المدرسة الأولى هي منهج أبي حامد الغزالي، والذي يمثل فسطاط منهج التزكية لدى الصوفية خاصة في كتابيه: “إحياء علوم الدين” و”منهاج العابدين”، هذه المدرسة تقوم على مبدأ التخلي قبل التحلي، بمعنى أن يستجمع العبد همته على التخلص من الأمراض والآفات، حتى يكون مؤهلًا لقبول غرس الإيمان وسلوك طريق التعبد لله رب العالمين.
فتجده في “منهاج العابدين” يقرر أن العبد بعد استكمال العلم والمعرفة بالفرائض تحجبه كثرة الجنايات عن الإقبال على العبادة إلى أن يتوب، فإذا ما أراد التوبة ظهرت له عوائق تمنعه سلوك طريق العبادة وهي الدنيا والخَلق والشيطان والنفس فاحتاج إلى دفعها، فإذا قطعها وقصد التعبد اعترضته عوارض الرزق الذي تطالبه به نفسه، والأخطار من كل شيء تخافه أو ترجوه، والشدائد والمصائب، وأنواع القضاء من الله بالحلو والمر، فإذا فرغ منها منعه الكسل والفتور وميل النفس إلى الدعة، فاحتاج إلى ما يزجرها ويدفعها لسلوك الطريق بالخوف والرجاء، فإذا فرغ منها رجع إلى الإقبال على العبادة، فلم ير عائقا ولا شاغلا، ووجد باعثا وداعيًا، فنشط في العبادة فأقامها، وعانقها بتمام الشوق والرغبة فأدامها.
لا ريب أن هذا المسلك يحمل قدرًا كبير من العنت، بل هو أبعد ما يكون عن القابلية للتطبيق لأنه يفترض في النفس البشرية أنها تثبت على حال، أو أنها تقف عند خطوتها الأخيرة بلا تراجع، وكيف يعرف العبد أنه تخلص بالأساس من الآفات والأمراض؟! إضافة إلى أن الرياضات التي امتلأ بها حديث الغزالي عن التزكية بعيدة عن الهدي النبوي وكثير منها يدخل في المحدثات.
ولله در شيخ الإسلام ابن تيمية إذ يقول: “النَّفْسُ مِثْلُ الْبَاطُوسِ -وَهُوَ جُبُّ الْقَذَرِ- كُلَّمَا نَبَشْتَهُ ظَهَرَ وَخَرَجَ. وَلَكِنْ إِنْ أَمْكَنَكَ أَنْ تَسْقَفَ عَلَيْهِ، وَتَعْبُرَهُ وَتَجُوزَهُ، فَافْعَلْ، وَلَا تَشْتَغِلْ بِنَبْشِهِ. فَإِنَّكَ لَنْ تَصِلَ إِلَى قَرَارِهِ. وَكُلَّمَا نَبَشْتَ شَيْئًا ظَهَرَ غَيْرُهُ”.
وكما نرى، مسلك التزكية لدى الغزالي يجعل العبد واقفًا عند وضعية تنقية الحشائش الضارة دون الاهتمام بري الزرع والاهتمام بنموه.
وأما مدرسة ابن القيم، فهي الأقرب والأكثر اتباعا وسيرا على الهدي النبوي، ويقوم منهجه على الاهتمام بالبناء الإيماني أو التحلية، مع التخلية أثناء الطريق، فيسير إلى ربه بالطاعة، فإذا ما اعترضه شيء في الطريق أو آفة قطعها.
ويحكي هو عن نفسه في مدارج السالكين أنه سأل بعض الشيوخ عن هذه المسألة فأجابه: “مثال آفات النفس مثال الحيات والعقارب التي في طريق المسافر فإن أقبل على تفتيش الطريق عنها والاشتغال بقتلها: انقطع ولم يمكنه السفر قط، ولكن لتكن همتك المسير والإعراض عنها وعدم الالتفات إليها، فإذا عرض لك فيها ما يعوقك عن المسير فاقتله ثم امض على سيرك”.
وبنى ابن القيم رحمه الله منهجه في التزكية على حقيقة أن الطاعة تبني الإيمان، وكلما علا هذا الصرح واشتد، اقتلع الآفات ودواعي الشرور وأسقطها، حيث أن نور الطاعة يبدد ظلام المعصية، لذا يقول رحمه الله في المدارج:
(اعلم أن أشعة لا إله إلا الله تبدد من ضباب الذنوب وغيومها بقدر قوة ذلك الشعاع وضعفه، فلها نور، وتفاوت أهلها في ذلك النور قوة وضعفا لا يحصيه إلا الله تعالى فمن الناس: من نور هذه الكلمة في قلبه كالشمس ومنهم: من نورها في قلبه كالكوكب الدري ومنهم: من نورها في قلبه كالمشعل العظيم، وآخر: كالسراج المضيء وآخر كالسراج الضعيف.
ولهذا تظهر الأنوار يوم القيامة بأيمانهم وبين أيديهم على هذا المقدار بحسب ما في قلوبهم من نور هذه الكلمة علما وعملا ومعرفة وحالا، وكلما عظم نور هذه الكلمة واشتد: أحرق من الشبهات والشهوات بحسب قوته وشدته حتى إنه ربما وصل إلى حال لا يصادف معها شبهة ولا شهوة ولا ذنبا إلا أحرقه) .
ومنهج ابن القيم رحمه الله في التزكية مستقى من النصوص النبوية الصحيحة التي تعالج الآفات بتعلية البناء الإيماني، وهو ما نستشفه من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، أن رجلا أصاب من امرأة يعني ما دون الفاحشة فلا أدري ما بلغ غير أنه دون الزنا فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له فأنزل الله سبحانه (أقم الصلاة طرفي النهار وزلفا من الليل إن الحسنات يذهبن السيئات ذلك ذكرى للذاكرين) فقال يا رسول الله ألي هذه؟ قال: لمن أخذ بها).
والمتأمل في المنهجين، يدرك فرقًا كبيرًا بينهما في مدى مراعاته لطبيعة النفس البشرية، ومدى الانسجام والتناغم مع جوهر هذا الدين وروح الشريعة التي أتت بالتيسير، فمنهج الغزالي به من المشقة على النفوس ما الله به عليم، وكأنه يفترض في نفوس البشر الصلابة والجلد وهي التي خُلقت وفيها الضعف، فيلزم لهذا المسلك أن يقوم به صفوة الصفوة، وتراه لا يتسق مع روح الشريعة التي جاءت بالتيسير ورفع الحرج { لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة: 286]، {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ } [الحج: 78].
بينما في المقابل يراعي منهج ابن القيم -المستقى من النصوص النبوية- طبيعة النفس البشرية التي يعتريها الفتور والملل، وينسجم مع منهج النبي صلى الله عليه وسلم في التيسير على الأنام.