- عبد الله زين العابدين يكتب: منهج التزكية بين الغزالي وابن القيم - الأثنين _15 _يونيو _2020AH 15-6-2020AD
- عبد الله زين العابدين يكتب: الغلو في الصالحين طريق الشرك - الأحد _16 _فبراير _2020AH 16-2-2020AD
روى مسلم عَنْ عِيَاضِ بْنِ حِمَارٍ الْمُجَاشِعِيِّ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ ذَاتَ يَوْمٍ فِي خُطْبَتِهِ: (أَلَا إِنَّ رَبِّي أَمَرَنِي أَنْ أُعَلِّمَكُمْ مَا جَهِلْتُمْ، مِمَّا عَلَّمَنِي يَوْمِي هَذَا، كُلُّ مَالٍ نَحَلْتُهُ عَبْدًا حَلَالٌ، وَإِنِّي خَلَقْتُ عِبَادِي حُنَفَاءَ كُلَّهُمْ، وَإِنَّهُمْ أَتَتْهُمُ الشَّيَاطِينُ فَاجْتَالَتْهُمْ عَنْ دِينِهِمْ، وَحَرَّمَتْ عَلَيْهِمْ مَا أَحْلَلْتُ لَهُمْ، وَأَمَرَتْهُمْ أَنْ يُشْرِكُوا بِي مَا لَمْ أُنْزِلْ بِهِ سُلْطَانًا).
فالله تعالى فطر عباده على وحدانيته، والأصل في البشرية أنها على التوحيد ثم عرض لها الشرك بالله، قال الله تبارك وتعالى {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ} [البقرة: 213]، قال ابن عباس وغيره في ظلال هذه الآية: “كَانَ بَيْنَ نُوحٍ وَآدَمَ عَشَرَةُ قُرُونٍ، كُلُّهُمْ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْحَقِّ. فَاخْتَلَفُوا، فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ”.
فأول ما دب الشرك في البشرية في قوم نوح، عندما اتخذوا أصنامًا آلهة من دون الله استجابةً لدعوة الشيطان، لكن هذا الشرك لم يحدث بين عشية وضحاها، بل من خلال تمهيد طويل الأمد من قبل الشيطان، وتدرج في دعوتهم إلى الشرك، قال تعالى {وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا} [نوح: 23].قال ابن عباس رضي الله عنها: “أَسْمَاءُ رِجَالٍ صَالِحِينَ مِنْ قَوْمِ نُوحٍ فَلَمَّا هَلَكُوا أَوْحَى الشَّيْطَانُ إِلَى قَوْمِهِمْ أَنْ انْصِبُوا إِلَى مَجَالِسِهِمْ الَّتِي كَانُوا يَجْلِسُونَ أَنْصَابًا وَسَمُّوهَا بِأَسْمَائِهِمْ فَفَعَلُوا فَلَمْ تُعْبَدْ حَتَّى إِذَا هَلَكَ أُولَئِكَ وَتَنَسَّخَ الْعِلْمُ عُبِدَتْ” رواه البخاري.
فالشيطان لم يأمرهم بالشرك بصورة مباشرة، لأنه أمر تأباه النفوس المؤمنة التي عاشت على التوحيد، لكنه اختار مدخلًا خبيثًا في تزيين الشر بالترغيب في تحصيل الخير، وهو أسلوب يتبعه الشيطان في إغواء بني آدم، فرغبهم في إحياء ذكرى هؤلاء العباد الصالحين بنصب تماثيل في مجالسهم حتى يذكرونهم بالعبادة فينشطوا إليها، وظل الأمر لا يتجاوز هذا الغرض حتى ذهب هذا الجيل، وجاء جيل من بعدهم دب فيه الجهل، فسول ليهم الشيطان أن آباءكم كانوا يعبدون هذه الأصنام فعبدوها.
ومن خلال هذه القصة يتبين أبرز أسباب الشرك والمتكأ الأعظم للشيطان في تزيين هذه الجريمة الكبرى لبني الإنسان، وهو الغلو في الصالحين وإنزالهم مكانة ليست لهم والمبالغة في تعظيمهم وتقديسهم.
ومن هنا كان حرص النبي صلى الله عليه وسلم على تربية الأمة بعيدًا عن الغلو حتى في جنابه وهو خير المرسلين وسيد ولد آدم أجمعين، فتراه يقول: (لاَ تُطْرُونِي، كَمَا أَطْرَتْ النَّصَارَى ابْنَ مَرْيَمَ، فَإِنَّمَا أَنَا عَبْدُهُ، فَقُولُوا عَبْدُ اللَّهِ، وَرَسُولُهُ) أي لا تبالغوا في مدحي فتنزلوني منزلة لم ينزلنيها الله تعالى، يقول ابن التين شارح صحيح البخاري: “مَعْنَى قَوْلِهِ لَا تُطْرُونِي لَا تَمْدَحُونِي كَمَدْحِ النَّصَارَى حَتَّى غَلَا بَعْضُهُمْ فِي عِيسَى فَجَعَلَهُ إِلَهًا مَعَ اللَّهِ وَبَعْضُهُمُ ادَّعَى أَنَّهُ هُوَ الله وَبَعْضهمْ بن اللَّهِ”.
ولما قدم معاذ من الشام سجد للنبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما هذا يا معاذ؟ قال:أتيت الشام فوافقتهم يسجدون لأساقفتهم وبطارقتهم، فوددت في نفسي أن نفعل ذلك بك. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فلا تفعلوا فإني لو كنت آمرا أحدا أن يسجد لغير الله لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها) رواه ابن ماجة وقال الألباني حسن صحيح.
ومع أن معاذا رضي الله عنه لم يقصد السجود للنبي صلى الله عليه وسلم على وجه العبادة وإنما على وجه التقدير وإظهار الاحترام، ولكن منعه النبي صلى الله عليه وسلم صيانة لجناب التوحيد بعد أن جاء الإسلام لينسخ ما كانت عليه بعض الشرائع السابقة من جواز السجود على جهة التحية كما في قصة يوسف ابن يعقوب عليهما السلام.
وجاء القرآن مؤكدا على بشرية النبي صلى الله عليه وسلم ليغلق الباب على أتباعه في الغلو المفضي إلى فساد الاعتقاد، فما من مجال لأن يقول أحد بأنه مخلوق من نور وجه الله، أو أنه يعلم الغيب من دون الله، أو يملك لنفسه ولغيره الشفاء أو كشف الضر أو جلب النفع، أو القول بأنه إله كما زعمت النصارى في المسيح عليه السلام.
فإذا كان الأمر كذلك مع النبي صلى الله عليه وسلم وهو أحب الخلق إلى الله وأتقاهم له وصاحب الشفاعة العظمى والوسيلة، فكيف بمن هو دونه؟
إن واقع المسلمين مع الأسف الشديد يكتظ بالغلو في الصالحين في حياتهم وبعد مماتهم، وإنّ من المنتسبين إلى الإسلام لمن يسجد لشيخ حيًا وميتًا، ويعتقد أن للكون أقطابًا تدبره وتسيره، ويذهب إلى قبر الولي ويدعوه كدعاء الله بالشفاء والنجاح وقضاء الحوائج، كل ذلك بسبب الغلو في الصالحين.
إن المخلوق مهما كانت له من المنزلة الرفيعة لن يتجاوز كونه عبدًا لله تعالى، لا يملك لنفسه نفعا ولا ضرا إلا ما شاء الله عز وجل، فلا يصح لأحد من الناس أن يتجاوز الحد في نظرته للأشخاص مهما كانوا على صلاح وتقوى، وهذا هو تعريف ابن القيم رحمه الله للطاغوت في إعلام الموقعين، حيث عرفه بقوله: “كُلُّ مَا تَجَاوَزَ بِهِ الْعَبْدُ حَدَّهُ مِنْ مَعْبُودٍ أَوْ مَتْبُوعٍ أَوْ مُطَاعٍ”، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.