من جميلِ ما سمعتُ هذه الأيام أن صديقًا لي حكى أنه زار قريبه الفقير كي يتفقدَ أحواله ويعطيه الصدقة التى اعتاد إخراجها له مطلع كلَّ شهر، وتطرّق الحديثُ بينهما حتى علم صديقي أن قريبه هذا يقتسم هذه الصدقة مع قريبٍ له أفقر منه. وعجب الصديق من فعله وسأله: وما الذي يدفعك لهذا وأنت محتاج؟! فكان ردُّه أعجب. قال له: لأنِّي ذُقت ألم الفقر وأشعر بما يعانيه، وصرتُ لا أشعر بأمان إلا بعد إيصال (حقَّه) إليه، ولمّا فعلت ذلك عوضني الله بنعم لا تُحصى، فالحمد لله على كلِّ حال.
قلت لصديقي: الحمد لله الذي أبقى البرَّ في أمة محمد ﷺ فلم ينقطع حتى في أزماتها،
هذا رجلٌ يا صديقيي ممن يُنصرُ بهم الدين، وتنجو بهم الأمة؛ إذ رغم فقره رُزق الفهم وأُلهم الصواب فشارك أخاه ما آتاه الله من صدقة،
وقد صنع لك معروفًا أن ثبّتك على هذه الصدقة وحتى استدرّ دمعك، إن الفقر الحقيقي يا صديقي هو فقر القلب، وقسوته، وأثرته،
قال النبي ﷺ لأبى ذر (رضي الله عنه):
«ألا ترى كثرة المال هو الغنى؟! قال: نعم يا رسول الله. قال ﷺ: «إنما الغنى غنى القلب، والفقرُ فقرُ القلب».
وإن هذه الواقعة يا صديقي تطبيقٌ عمليٌّ لما يجب أن يكون عليه مجتمعنا هذه الأيام التي ابتُلى الناس فيها بالغلاء والبلاء،
وكثُر الذين يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف، فصار الإنفاق والصدقة فريضة الوقت وحديث الدعاة.
وكفايةُ الفقراء يا صديقي مقدمةٌ -كما قال العلماء- على سائر وجوه الإنفاق، بدليل أنها جاءت في صدارة مصارف الزكاة الثمانية؛
(إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاِبْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ)
[التوبة: 60].
وإذا كانت أعمال البرِّ العامة قد صارت مجرّمة منذ عشر سنوات، بعد غلق جمعياتها وسجن القائمين عليها
وملاحقة من يؤمنون بمبدأ التكافل الإسلامي وعوْن المحتاج -فلا يقعدنا هذا عن إيصال الحقوق إلى مستحقيها،
وإغناء الفقراء الذين ما جاعوا إلا بإمساك الأغنياء وجهلهم بفضل النفقة ومكانة المنفقين.
وتلك المهمة يجب أن يتولاها الدعاة؛ أن يبينوا للناس أنه لا برَّ يعدل الإنفاق الآن، ولو بالقليل، فرُبَّ درهم سبق ألف درهم، وفى الخبر:
«اتقوا النار ولو بشقِّ تمرة»،
و«..وأحبُّ الأعمال إلى الله: سرورٌ تدخله على مسلم، أو تكشف عنه كُربة، أو تقضى عنه دينًا، أو تطرد عنه جوعًا»،
وأن يبينوا أنه يعظمُ أجرُ النفقة على قدر شدة الكرب والاحتياج إليها؛
(فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَة فَكُّ رَقَبَةٍ أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ)
[البلد: 11- 16].
إنه نداءٌ للأغنياء ومن يملكون:
ألا ينسوا إخوتهم في الدين والإنسانية، عيال الله، وأن يسابقوا إلى هذا الفضل،
وأن يعلموا أنه لا يقبض المال عن المحتاجين إلا شحيح مريض القلب،
وأن هذا المال عاريةٌ مستردة، وأن الأيام دولٌ، فربما تغير الحالُ وابتُلى الغنىُّ بالفقر فلن ينفعه يومئذ إلا ما قدم.
أما المتصدقون فهم بصدقتهم في حرزٍ من غضب الربِّ ولهيب النار، وفى الدنيا:
شفاءٌ للأمراض، وبركة في المال، ووقاية من مصارع السوء.
ولنتواص جميعًا بالمرحمة، بإطعام الجائع، وإكساء العريان، وستر الأرملة، وإعزاز من أعوزته الأيام،
وجبر الخواطر، وإسعاد البؤساء، وعلاج المرضى؛ ففيها النجاة والفداء من خزي الدنيا وعذاب الآخرة..
أقسَمَ لي أحدُهم أنه أنقذ جارًا من ورطة يوم قبض راتبه؛ فأبدله الله في اليوم ذاته ضعف ما افتدى به الجار،
فكانت فرحته فرحتين؛ فرحته بفك كربة جاره، وفرحته بأن عمله مقبول بإذن الله. نسأل الله لنا ولكم الستر والعافية.
- عامر شماخ يكتب: صورة «الإسلامى» فى إعلام المستبدين - الأربعاء _15 _مارس _2023AH 15-3-2023AD
- عامر شماخ يكتب: تحويل القبلة.. اختبار الاستجابة لأمرِ الله - الأحد _12 _مارس _2023AH 12-3-2023AD
- عامر شماخ يكتب: «سيكولوجيةُ المنشقين» - الأثنين _6 _مارس _2023AH 6-3-2023AD