نستعيدُ في هذه الأيام ذكرى ثورتنا المجيدة، ثورة يناير، ونشمُّ عبيرها، ونَحِنُّ إلى العيش في أجوائها، واثقين من عودتها –وبقوة- من جديد، وهو شعورُ كلِّ من عايش أحداثها، وشارك في فعالياتها، وعانى خلالها القلق والترقب، ورأى أعداد الثوار الهادرة، وتفاعل مع الأخبار، السعيدة وغير السعيدة، والشائعات، والتهديدات والمساومات.. فلا أظن أحدًا عاصر هذه الأيام ونزل الميدان إلا مثَّلتْ له هذه الأيامُ ذكرى؛ وأيّ ذكرى.
الإيمان بحرية الفرد
والأهم أنها وضعت في نفوس أبنائها، الذين صنعوها أو شاركوا فيها، عقيدة لا تنمحي، تؤمن بحرية الفرد، وإطلاقه من أي قيد يسلبه هذه الحرية، أما مبناها فهو العدالة الاجتماعية وتوفير الخبز والأمن للجميع، وتحرير الوطن من التبعية المقيتة، والسعي لربطه بقطار الحضارة والتنمية.
ولا يزال الأبناء البررة، أبناء الثورة، يحافظون على تلك العقيدة، وينشرون ثقافتها، ويدفعون عنها أنياب الضباع المخاتلين الذين باعوا أنفسهم للشرق والغرب بثمن بخس، فلا زالت الحرب سجالاً بين الفريقين؛ فريق الثورة الذي يدعو إلى عقيدة تستمد أصولها من الفطرة التي أنشأ الله الناس عليها وتسعى لتكريم الآدمي، وفريق «الثورة المضادة» الذي يمتلك الآلة والسلاح ويحظى بدعم المجرمين حول العالم؛ مشكِّلًا عصابة تسعى لتأمين مصالحها وإثراء عناصرها ولو كان ذلك على حساب الدين والوطن؛ وهم -في الحقيقة- لا يعرفون دينًا ولا وطنًا.
أما «الثوار الحقيقيون» فإنهم لا يملُّون إذا ملَّ الناس، ولا ييأسون، ولا يستطيلون «مشوار الثورة» و«طريق التحرير»،
ولهم في الأنبياء -جميعًا- القدوة؛ إذ عانوا مشاق هذا الطريق، طريق الإصلاح، فمنهم من قضى نحبه ولم يتحقق موعود الله،
(فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَإِمَّا نرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ)
[غافر: 77]،
ومنهم من انتظر حتى تحقق جزء من ذلك الموعود وبقيت أجزاء.. لكنهم جميعًا -وكذلك المصلحون- برُّوا بعقيدتهم، وأخلصوا لثورتهم حتى جاء وعد الله.. فصارت الديار غير الديار، والناس غير الناس، أو قلْ: جاء الحق وزهق الباطل، وقد ولَّى الفساد والمفسدون إلى غير رجعة.
سوف تقوم ثورة أخرى أكبر من أختها،
وسوف يُسدل الستار على مشهد يسعد به الجميع، ولن تضيع دماء الشهداء هدرًا،
ولن تذهب تضحيات المضحين سدًى، وسوف يدفع كل جانٍ ضريبة ما جنى..
أما متى يكون ذلك فهذا في علم الله، مقدِّر المقادير، مسبِّب الأسباب، العليم الخبير..
وهل هذا يعد خداعًا وفشلًا -أي عدم تحديد موعد لقيام الثورة من جانب الثوار أو المتحدثين بلسانهم؟
أبدًا والله، بل هذا عين ما جرى للرسل جميعًا -عليهم السلام- فإنهم كانوا يعملون ويعملون،
ويجدّون وينشطون حتى يأتي وعد الله، الذي لا يخلفه،
والذي جعل لكل شيء قدرًا، فينجِّى -سبحانه- من يشاء، ولا يُردُّ بأسُه عن القوم المجرمين.
النية معقودة على الدوام
وكما هو دأبُ هؤلاء المرسلين، ودأب الصالحين في كل زمان ومكان؛ فإن «الثائر» أو «المصلح» يلزمه نية معقودة على الدوام، ويلزمه حركةٌ وفعلٌ، وسعىٌ ونشاطٌ،
ويلزمه «تعبئةٌ» تخصم من رصيد الخصم لتضيف إلى رصيده، من الأتباع والإمكانات والمواقف،
ويلْزمه تطويرٌ لذاته، والاعتبار بمواقف وأحداث الماضي.. ولا يغيب عن ذهنه الاستقامة، فى نفسه ومن معه،
ولو طال الزمن وبعُدت الشقة؛ فكأنما يرى العاقبة لحزبه واضحة جليَّة، كما يرى الشمس واهجة في رائعة النهار.
قد يقول البعض إن هذا «تخدير» لثورة فاشلة أسقطتها «ثورة مضادة»، أو هو أمل الغريق يستغيث حيث هو في القاع..
أقول: بل هو يقين الواثق في ربه، المؤمل في وعده،
من استوعب التاريخ ودرس أحوال البشر فعلم أن ما جرى جولة من جولات، ووقعة من وقعات،
وأن الدائرة لا شك سوف تدور على البغاة، وما كان لصاحب الحق أن يتردد أو يتلجلج أو يصيبه ما يصيب السارق والغاصب؛
فإنا -والله- لا نرى سوى سيادة الحق وأهله، وانخذال الباطل وحزبه.
ولو طال بنا المقام وتحقق وعد الله لسوف نذكِّر القانطين بما قلناه وكانوا اليوم لنا مكذبين.
- عامر شماخ يكتب: رسالةٌ إلَى الشَّباب - الأحد _5 _فبراير _2023AH 5-2-2023AD
- عامر شماخ يكتب: «فن إدارة العمل الدعوى» - الجمعة _3 _فبراير _2023AH 3-2-2023AD
- عامر شماخ يكتب: تذكرة بـ«جرائم مبارك» - الأربعاء _1 _فبراير _2023AH 1-2-2023AD