فى مشهد تحويل القبلة تجد الطاعة الكاملة والاستجابة التامّة من صحابة النبى (رضوان الله عليهم أجمعين)، رغم عِظَمِ الموقف ومفاجأته، وهى طاعة مبصرة، واستجابة عن يقين فى الله عزّ وجلّ تليق بعظمته، وثقة فى رسوله ﷺ تليق بنبوّته، قالوا: (آَمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ) [آل عمران: 7].
من ثَمَّ تظل طاعةُ الله ورسوله نظريةً ما لم تُترجم إلى مواقف عملية تشهد لأصحابها بمدى الإخلاص واليقين. وقد أورد القرآن الكريم مشاهد عدة لأقوام عصوا رسلهم وخالفوا أمرهم رغم ما جاءهم من آيات تنفِّر من تلك المخالفة؛ إذ ما من رسول أُرسل إلا وله حق الطاعة على قومه؛ (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ…) [النساء: 64]، (وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ…) [يس: 20].
أما أصحاب نبينا ﷺ فقد التزموا النهج الربانى القويم، مستجيبين لله وللرسول، مخالفين من سبقهم من الأمم التى اتبعت أهواءها فتفرقت بهم السُبل؛ (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) [النور: 63]. قالوا (رضوان الله عليهم) قبيل بدر: «والله لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى: فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ، ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون، فوالذى بعثك بالحق لو سرتَ بنا إلى بَرْك الغِمَاد لجالدنا معك من دونه حتى تبلغه».
روت كتب السنة أنه: (حضر الصلاة مع رسول الله ﷺ إلى القبلة الجديدة رجال ونساء وشباب وشيبان، فأرسل النبى ﷺ شابًّا من الأنصار يقال له «عبَّاد بن بِشر» فقال: «اذهب إلى بنى سلمة فى مسجد قباء وأخبرهم أن القبلة قد حُوِّلت فليتحولوا فى الصلاة إلى البيت الحرام»، فأتاهم عبَّاد (رضى الله عنه) وهم يصلون الفجر، ووافاهم فى المسجد وهم راكعون، فقال: أشهد بالله لقد صليتُ مع رسول الله ﷺ قِبَلَ مكة، فداروا كما هم قِبَلَ البيت، كانت وجوههم إلى الشام فاستداروا إلى الكعبة).
دار الصَحبُ الكرامُ دورةً بلغت (180) درجة إلى الجنوب كى يتجهوا إلى مكة بعد أن كانت وجهتهم إلى الشمال نحو بيت المقدس، كلُّ هذا أثناء الركوع؛ وبهذا نجحوا فى الاختبار الذى امتحن به الله إيمانهم؛ (وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى الله…) [البقرة: 143].
وإن هذا لديدنهم (رضوان الله عليهم) فى كل ما جاء به النبى ﷺ، فها هو أبو بكر (رضى الله عنه) يقول: «لستُ تاركًا شيئًا كان رسول الله ﷺ يعمل به إلا عملتُ به، وإنى أخشى إن تركت شيئًا من أمره أن أزيغ». وها هو عمر (رضى الله عنه) الذى جاء إلى الحجر الأسود فقبَّله وقال: «إنى أعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع، ولولا أنى رأيت رسول الله ﷺ يقبلك ما قبلتك».
إن هذا المشهد، مشهد تحويل القبلة واستجابة الصحابة (رضوان الله عليهم) لأمر النبى ﷺ فيه، يدعونا لإعادة النظر فى عبادتنا وطاعتنا، بل فى عقيدتنا عينها، فإنها لسبيل واحدة، وإنه لإله واحد لا يقبل شركًا ولا هوًى، وإن الحياة الحقيقية هى التى تكون خالصة لله، فلا حكم إلا له، ولا استعانة إلا به، ولا ملجأ ولا منجى منه إلا إليه (سبحانه).
يقول الإمام ابن القيم (رحمه الله): «الحياة النافعة إنما تحصل بالاستجابة لله ورسوله، ومن لم تحصل له هذه الاستجابة، فلا حياة له وإن كانت له حياةٌ بهيميةٌ مشتركةٌ بينه وبين أرذل الحيوانات، فالحياة الحقيقية الطيبة هى حياة من استجاب لله والرسول ظاهرًا وباطنًا، فهؤلاء هم الأحياء وإن ماتوا، وغيرهم أموات وإن كانوا أحياء الأبدان؛ ولهذا كان أكمل الناس حياة أكملهم استجابةً لدعوة الرسول ﷺ».
من أجمل ما ورد فى مظاهر اتّباع النبى ﷺ، ما جاء فى سيرة سيدنا «عبد الله بن عمر»، رضى الله عنه؛ فما كان أحدٌ يتعقب آثاره وسنته ﷺ مثل هذا الصحابى الجليل. رُوى أنه كان فى طريق مكة يأخذ برأس راحلته يثنيها ويقول: (لعلَّ خُفًّا يقع على خُفٍّ)؛ يعنى خفّ راحلة النبى ﷺ. وقد جاء بنوه من بعده ففعلوا فعله. عن موسى بن عقبة [فى البخارى]: (رأيتُ سالم بن عبد الله بن عمر يتحرى أماكن من الطريق فيصلى فيها ويحدِّث أن أباه كان يصلى فيها، وأنه رأى النبى ﷺ يصلى فى تلك الأمكنة).
وفعلُ «ابن عمر» هو ما يجب أن يكون عليه سلوك المسلم تجاه نبيه وقدوته ﷺ. وفى ذكرى تحويل القبلة نذكِّر بهذه الفضيلة التى لها أدلتها القاطعة من الكتاب والسنة، فضيلة اتباع النبى ﷺ والسير على منهجه، والتخلق بأخلاقه، وتعظيمه وتوقيره، ونصر سنته، والذبّ عن شريعته. ولِمَ لا وقد فشتْ الفتن وكثُر التهريج، وصارت قدوات المجتمع أجسادًا عارية وأدمغة تافهة، فوجب التذكير لئلا تذوب الطائفة المستمسكة بالحق الذين تلفُّهم من كل جهة موجات الفساد الكبير والإباحية الطائشة.
إن من كمال الإيمان: طاعة أمر النبى ﷺ واجتناب نواهيه، وتصديقه فيما جاء به؛ (وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا…) [الحشر: 7]، وحبه والشوق إليه؛ (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ) [آل عمران: 31، 32]، ولن يشعر بلذة الإيمان سوى من أحب الله ورسوله حبًّا خالصًا غير مشوب بتذبذب أو نفاق؛ تصديقًا لما ورد عنه ﷺ: «ثلاثٌ من كنَّ فيه وجد حلاوة الإيمان: أن يكون اللهُ ورسولُه أحبَّ إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود فى الكفر كما يكره أن يُقذف فى النار».
ومن أركان الاقتداء بالنبى ﷺ وتمام اتباعه: تبليغ دعوته، ونشر سنته فى زمن سادت فيه البدعة وأحدث الناس فى دين الله ما ليس منه، وذلك يقتضى انتهاج الوسطية التى أُرسل بها النبى ﷺ، والسير على منهجه المعتدل الذى لا يعرف إفراطًا ولا تفريطًا ولا إعناتًا ولا مشقة، وقد تركنا ﷺ على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك..
يقول ﷺ «.. فمن رغب عن سنتى فليس منى»، «عليكم بسنتى وسنة الخلفاء المهديين من بعدى، عضُّوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة»، ومن استجاب فله الحسنى، ومن عصى فقد ضل وغوى؛ (الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ) [آل عمران: 172]، (فَالَّذِينَ آَمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) [الأعراف: 157].
ولا تزال أمتنا بخير ما دامت على صراط الله المستقيم؛ ما يقيها الزيغ والهلكة، ويجنبها الهزائم والنكبات والفتن، وهذا لا يكون إلا بالاستسلام الكامل لله ولرسوله، وعدم مخالفتهما؛ (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) [النور: 63]، وتعظيمهما، وتوقيرهما فإنه لا دستور إلا دستورهما، ولا شرع إلا شرعهما ولا حكم إلا حكمهما؛ (فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [النساء: 65]، (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا) [الأحزاب: 36].
إن الذى شرع لنا الإسلام لهو الرءوف الرحيم، الحنَّان المنَّان، العليم الخبير، وإن الذى بلَّغ الرسالة وأدى الأمانة لهو الباكى لأجل أمته الحريص عليها، الجاثى على ركبتيه لئلا يُعذبوا؛ (النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ…) [الأحزاب: 6]؛ (لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ) [التوبة: 128].. ما جعل أصحابه يفدونه بأنفسهم وآبائهم وأمهاتهم، وأن ينفروا لأمره فلا يتخلف منهم رجل؛ (مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلَا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ…) [التوبة: 120].. نسأل الله أن يثبتنا على طريقتهم، وألا يضلنا بعد هدى. آمين.
- عامر شماخ يكتب: صورة «الإسلامى» فى إعلام المستبدين - الأربعاء _15 _مارس _2023AH 15-3-2023AD
- عامر شماخ يكتب: تحويل القبلة.. اختبار الاستجابة لأمرِ الله - الأحد _12 _مارس _2023AH 12-3-2023AD
- عامر شماخ يكتب: «سيكولوجيةُ المنشقين» - الأثنين _6 _مارس _2023AH 6-3-2023AD