قطنتُ القاهرة بصفة دائمة منذ اثنين وأربعين عامًا، باستثناء سنة واحدة قضيتها في الإسكندرية، أربعة عقود ونيف لم أرتح خلالها لهذه المدينة الملوثة المكتظة ذات الظل الثقيل.
منذ صيف عام 1981 وأنا أقيم فيها قسرًا، رغم ما صار لي فيها من معاش وروابط وأزواج وذرية.
ترشحت لكلية الإعلام بعد حصولي على الثانوية العامة، ولم يكن لها بديل حينها في مصر كلها،
ولم يكن لي خيارٌ آخر بعد هذا الترشُّح، إلا أن ألتحق بكلية أخرى دون مستوى الإعلام تكون في طنطا أو في الإسكندرية، وهما الأقرب جغرافيًّا لبلدتي،
أما هذا الخيار فكان مستبعدًا أيضًا؛ باعتباري أحد أوائل محافظتي ولا يليق أن ألتحق بغير هذه الكلية المرموقة،
خصوصًا أن بريق العمل الصحفي والإذاعي كان طاغيًا في تلك الفترة..
من أشد أيامي الحافلة بالصراعات هي صيف هذا العام، 1981،
أعشق الدراسة والمذاكرة، وأرنو دائمًا إلى التفوق، ولى إرادة صلبة وعزيمة قوية، أما أن أذهب إلى القاهرة وأقيم فيها فهذا لا يكون،
لقد زرتها من قبل مرة واحدة فظل هواؤها الملوث يكتم أنفاسي لأيام،
وشربت مرة واحدة من مائها تقيأت بعدها قيئًا كاد أن يكون دمًا، وظللت لأسابيع ورائحة الكلور لا تغادر أنفى..
مرّ أسبوع على الدراسة ولم أتحرك، ولم تطأ قدمي كليتي الموعودة، زارني الزملاء، وشجعوني ومنّوني، وأنا في حيرة لا يعلم بها إلا الله،
وأخيرًا وبضغط من خالي الحبيب، رحمه الله، سافرت سفرة الذاهب إلى وادي الحيات.. وقفتُ أمام باب الكلية ولم أدخلها، وعدتُ من حيث أتيت..
وقضيتُ شهرًا كاملًا في قريتي، عازفًا عن كل شيء، محبطًا، راجيًا الله أن يزيل القاهرة.. لكن لا غالب لأقدار الله، أخيرًا تجرأتُ، وعقدت العزم،
وذهبتُ إلى القاهرة، هي بالفعل قاهرة، ليس لأعداء الإسلام فقط حيث انكسرت على أعتابها الكثير من حملاتهم، ولكنها قاهرتي، ومرغمتي على العيش بها..
حلمتُ كثيرًا، ولا زلت بتركها، لكن لم يرد الله، حتى لمّا أردت السفر للخارج تعطلت ثلاثة مشاريع سفر وصلتني تأشيرة أحدها،
وجهزت نفسي لآخر وودعتُ أهلي ثم تعطل قبل السفر بيوم واحد.
أكرهها لزحامها القاتل،
ولظاهرة الإبهام الشخصي التي تضرب ساكنيها، ولعشوائيتها التى ليس لها مثيل..
وفوق ذلك فإنها لا توافق مزاجي الريفي الذي يطلب الهدوء والبساطة والأفق المفتوح،
أما تلك المدينة البغيضة التي رأيتُ فيها العجب العجاب فلا أستريح لجوّها،
وأنفر من ترهلها واسوداد شوارعها وخلوها من المادة الخضراء، عنوان المودة والسلام.
- عامر شماخ يكتب: الداعيةُ الحقُّ - الجمعة _2 _يونيو _2023AH 2-6-2023AD
- عامر شماخ يكتب: «ميليشيات الدعاة» - السبت _27 _مايو _2023AH 27-5-2023AD
- عامر شماخ يكتب: وسائلُ المستبدِّ لتضليلِ الجماهير - الجمعة _26 _مايو _2023AH 26-5-2023AD