عامر شماخ يكتب: «الإسراء والمعراج.. بدء عالمية الإسلام»

بقيتْ دعوةُ الإسلام فى محيط مكة ضعيفة مهيضة مطاردة، حتى أذن الله لها بالهيمنة على من سبقها من الأمم والدعوات؛ مستكملًا بها الدين، متمًّا بها نعمته على العالمين.

وتعد ليلةُ السابع والعشرين من رجب (قبل هجرة النبي ﷺ بستة عشر شهرًا على أرجح الأقوال) موعد انطلاق هذه الدعوة الخاتمة؛ لتصبح عالمية المقصد، مستهدفة  هداية الخلق كافة، على اختلاف ألسنتهم وألوانهم وأجناسهم..

من ثم يمكننا إطلاق مسمى (الإعلان العالمي لدين الإسلام) على هذا اليوم المشرق، أو تلك الليلة المباركة التى انتقل فيها المعصوم ﷺ، بجسده وروحه، من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، ممتطيًا «البراق» -بعد نحو تسع سنوات من الجهد والمعاناة، والمحن القاسية،

فَقَدَ خلالها الآزر والمعين، وقد قلَّت حيلتُه، وضعفت قوته، وهان على عشيرته، وتجهمه البعيد، وملك أمره القريب -فكان هذا (الحفل) النبوي الملائكي الذي بدأت فعالياته فور قدوم النبي ﷺ إلى بيت المقدس.

لقد أمَّ النبي ﷺ إخوانه الأنبياء فى الصلاة؛ تسليمًا منهم بانضوائهم جميعًا تحت رايته، راية الإسلام، على ملة إبراهيم، الحنيفية السمحة،

فكان اعترافًا منهم بألا دين غير هذا الدين، وألا خاتم غير هذا الرسول،

ومن يبتغ غير الإسلام دينًا فلن يُقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين.

ثم اعترفوا بأُخوته ونبوته، وفضله وخيريته، فما صعد سماء فى معراجه وفيها نبي إلا أذن له، ورحب بمقدمه، ونعته بالصلاح،

من لدن آدم (في السماء الأولى) إلى إبراهيم (في السماء السابعة)؛

ما يؤكد علو مكانته ورفعة منزلته بين أولئك الوجهاء المصطفين الأخيار،

وأنهم قد اجتمعوا -بأمر الله- في هذه الساعة ليسلموه الراية، وليبايعوه بالإمامة،

وليكونوا شهودًا على أممهم وأقوامهم.

وفى هذه الليلة عظمت ثقة النبي ﷺ بالله رب العالمين،

بعدما أراه من آياته الكبرى، التى اطمأن بها قلبه، وسكنت بها جوارحه،

وقد تكرر معه ما جرى لأبيه إبراهيم لما قال له الله -تعالى-: أولم تؤمن؟ قال: بلى ولكن ليطمئن قلبي.

إذ لم يكد محمد ﷺ يبدأ رحلته ويرى عظمة خالقه -تعالى- متجلية في الكون من حوله

حتى هان عليه موت الأحبة وقسوة المدعوين،

وحتى تجهز واستعد راغبًا راضيًا في الإعداد لدولته، وفى ملاقاة المناوئين لدعوته.

 لقد تيقن ﷺ أن إرادة السماء فوق كل إرادة،

وأن انعقادها على هذه الصورة التي لا  تخطر على قلب بشر لا يدع للفكر ذرةً من شك في أن الله غالب على أمره،

وأن من يحظ بدعم السماء تطش أمامه كل قوى واستعدادات البشر.

وقد أُرسى ﷺ في هذه الليلة مبدأ «التعاون» بين إخوة الدين،

وهذا درسٌ  للعاملين في الحقل الإسلامي؛ فمحمد ﷺ يستشير أخاه موسى -عليه السلام- في أمر الصلاة التي فرضها ربه على أمته،

فيشير عليه بالأصلح، ولا يزال يتردد عليه حتى استحى أن يرد على ربه مرة أخرى.

وفى هذه الليلة تم إعلان هذا الدين دينًا للفطرة؛ إذا استساغ النبي ﷺ اللبن وكره الخمر؛

واللبن هو الأقرب إلى قلوب الذين لم ينخرطوا في إثم أو رذيلة أو فسق وكفر، عكس الخمر،

وكلما كان الإنسان على الفطرة كان أقرب لهذا الدين، محبًّا  لنبيه وأتباعه.

ولا يزال الناس منقسمين حول هذا الدين،

كما انقسم من استقبلوا خبر الإسراء والمعراج فى مكة، بين مصدق ومكذِّب،

لكن في النهاية سيؤمن به الجميع  كما آمن من كذبوا خبر الإسراء والمعراج،

ولن يترك الإسلام بيتًا، من حضر أو وبر إلا دخله، بعز عزيز أو بذل ذليل.

ورغم تعدد فروض هذا الدين، وكثرة أوامره ونواهيه -فإن في هذه الليلة قد تمت الإشارة إلى عدد من النواهي رأى النبي ﷺ عاقبة أصحابها رأى العين؛

ما يفرض على المسلمين الحذر من الوقوع فيها؛

إذ لولا خطورتها ما أُريها النبي ﷺ في تلك الليلة ليقصها علينا، وهى الزنا، وأكل أموال اليتامى، والربا.

كما تمت الإشارة إلى عدد من أعمال البر والإيمان،

ما يفرض على المسلمين الإكثار منها والاجتهاد فيها، منها الجهاد في سبيل الله

(رجال يزرعون ويحصدون في اليوم نفسه)، والثبات على الدين (ماشطة ابنة فرعون).

لقد أُعلن في هذا اليوم أيضًا أن المسجد هو أطهر البيوت وأكرمها وأكملها عند الله؛

إذ بدأت الرحلة من مسجد وانتهت إلى مسجد، ناهيك عن تفضيل هذين المسجدين عن غيرهما من المساجد.

وأُعلن أيضًا أن «العبودية» الوحيدة التي يشرف بها الإنسان هي «العبودية لله»؛ (سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً…)

[الإسراء: 1]،

وأن الابتلاءات في سبيل الله يعقبها العلو والظهور، وما جرى لـ«محمد» ﷺ في هذه الليلة

وما أعقبها من تمكين بعد تمحيص هو عين ما جرى لإخوانه: نوح وموسى ويوسف وأيوب -عليهم جميعًا السلام.