هل يمكنك أن تتخيل نبيك محمداً يقذف بالقرآن أرضاً، فما بالك بالكليم يُلقي بكلام ربه وكليمه أرضاً، ولتستطيع أن تتصور موجة غضبة موسى العاتية التي اغتصبت عقله فما عاد يدري من أمره شيئاً فلابد أن ترجع معه إلى مئات الكيلومترات وهو يجري لاهثا ومعه بنو إسرائيل في حالة فزع وخوف واستيئاس من النجاة وهم يركضون مهرولين يركبون نعالهم ومنهم حفاة، بينما يتصاعد أمام أعينهم المتطلعة ذعراً غبار حوافر أحصنة أقوى جيوش العالم على عجلاته الحربية وأفراسه القوية المجهزة، فيقولون: إنا لمُدركون. فكأن يقين موسى بربه الذي كلّمه مشافهة يصرخ: كلا إن معي ربي سيهدين، وقبل لحظة احتدام الطالب بالمطلوب بدقائق يقرع موسى باب البحر بعصاه الصغيرة المحدودة الوزن والطول فإذا بماء البحر يصعد من عمق مئات الأمتار ليجمد في أعلى مكوناً جبلين يحفاّن طريقاً يابساً جافا لا يقل عرضه عن عشرة أمتار تقريباً.. فهنا يمرون من هذا الطريق بين جبلي الماء ( فكان كل فرق كالطود العظيم )، ويسيرون بطول لا يقل عن الكيلو مترين يستمتعان بالنجاة من أقوى قوة أرضية عنفوانية على الأرض آنذاك، وعندما يصلون إلى الجانب الآخر من البحر (خليج السويس) ينظرون بعين اليقين إلى جبلي الماء وهما ينّقضان على فرعون وجيشه الظالم.. إن هذه الصورة كانت تستحق أن تظل ماثلة في بؤرة العينين يسجدون بها لكبرياء ربهم لثلاثة أجيال على الأقل فيحدّث الشاهد ابنه وحفيده فترتاع قلوب الأبناء والأحفاد تأثراً برجفة قلب الجد الشاهد وفيوض دموعه وهو يتذكر فيخر ساجداً خاشعاً باكياً حامداً .
ولكن الذي حدث غير ذالك تماماً فهم بعد سويعات قليلات جداً يمرون على قوم يعكفون على أصنام لهم فبدلا من أن يهوون إليهم مسرعين قائلين متسائلين بماعون الآية التي حفرت شرايين قنوات دمع جديدة: كيف يا ناس تسجدون لغير الله، كيف ترجون غير الله، كيف تسألون الأصنام وتتركون ربكم العظيم الكبير المتعال القادر القوي الناصر، لقد رأينا بأعيننا هذه كيف ينصر الله عباده ويغرق عدوه وينتقم منه، تعالوا نريكم جيشا كاملا في قاع البحر بكامل عتادهم وأسلحتهم وغرورهم وكبرهم، تعالوا نغوص سويا لتروا.. ولكنهم لم يفعلوا ذالك بل قالوا لموسى المسكين الذي يكاد قلبه ينفرط من جسده من هول الحقارة وهو يسمعهم يطلبون إلهاً وثناً شاخصاً أمامهم مثلما لهؤلاء أصنام يعكفون عليها، فهل كان رد موسى كافيا لردعهم وهو يقول: إنكم قوم تجهلون، إن هؤلاء متبرٌ ما هم فيه وباطلٌ ما كانوا يعملون، أغير الله أبغيكم إلهاً وهو فضّلكم على العالمين، وإذ أنجيناكم من آل فرعون.. مسكين ياسيدي موسى، مضطر أنت أن تذكرهم بآية إنجائهم بعد ساعات فقط من حدوث الآية، وكان المنطق يقتضي أن تكون هذه آية في التوراة لتذكر الأجيال القادمة بهذه الآية المبهرة التي يحتفل بها أتباع محمد بصوم يومين احتفالا بنجاتك وقومك ، لكن قومك يا سيدي.. مصيبة والله.
لم يرعوي هؤلاء ولم يدخروا رد موسى عليهم لنزع هذه الجاهلية الكارثية من قلوبهم، ولكنهم بعد أربعين يوما سيصنع دجال منهم عجلا من مخلفات الذهب وبزوايا شيطانية يدخل الهواء من مقدمته فيصدر خواراً من مؤخرته فيصيح السفهاء: هذا إلهكم وإله موسى فنسي، لأنهم كانوا يعلمون أن موسى ذاهب في رحلة استلام شريعتهم من ربهم لإقامة أمة جديدة بحضارة على نور من ربها وشريعته، أموسى هو الذي نسي أم انتم الأكثر حقارة وإصراراً على تجاهل ما علمكم إياه من توحيد ربكم ومقتضيات هذا التوحيد .
فلما أخبر الله موسى بعدما استلم ألواح التوراة (وكتبنا له في الألواح من كل شيء موعظة وتفصيلا لكل شيء، فخذها بقوة وأمر قومك يأخذوا بأحسنها…) أن قومه اتخذوا العجل بعد كل هذه النعم، فكيف تتخيل رحلة عودة الكليم إلى هؤلاء المسعورين على الشرك والانحراف، والمصيبة الأكثر هولا أن موسى استخلف وراءه أخاه هارون النبي الذي كان متحدثا ربانياً بهذا الدين في مواجهة فرعون وآل فرعون من الحكماء والنجباء لأنه أفصح لسانا (وأخي هارون هو أفصح مني لسانا فأرسله معي ردءاً يصدقني..)، ولكن الأوغاد المسعورين بالشرك والمفتونين بالعجل الذهبي يكادون يقتلون هارون لما ذكرهم بحقيقة دينهم (إن القوم استضعفوني وكادوا يقتلونني فلا تشمت بي الأعداء ولا تجعلني مع القوم الظالمين).
إن هذه الغضبة من موسى على قومه لم يغضب بمقدار معشارها على الكافرين المشركين من فرعون وملئه، فشتان بين كافر يعلن تناقضه معك بل قد يقتلك إذا تمكن منك، وبين تابع بذلت له من العلم والحلم وحمل هم نجاته ثم تراه ينقض أصل رسالتك ويبعثرها في فراغ جاهليته وحقارته ويشعرك أنك بعد كل عمرك وبذلك وجهادك وبلاغك ورحلات الصبر ومواجهات الطغاة بالبراهين والمعجزات وأنت النبي الكليم، فكأن هؤلاء السفهاء الحقراء الذين نجوا معك يقولون لك بحالهم البغيض أن الدعوة برمتها أضحت خائبة بعدما أنكرتها قلوبهم البليدة الغبية الجاهلة.
آه يا سيدي موسى لو تعلم كم يحبك أحرار أمة محمد، ولو كانوا معك ساعة النجاة لظلوا ساجدين بقية عمرهم لولا نداءك لهم أن قوموا لنقيم حضارة ربنا وندعو إليه في العالمين لتنجوا بدعوتكم أمم وأرواح تكاد تهلك بغيابكم، فنقوم لك ونتحرك بإشارة عينيك وطرفة إصبعك إلى حيث أردت، ونقول لك يوم تأمرنا بمواجهة جالوت وجنده الجبارين: سمعا وطاعة يا سيدنا أنظر أنت وربك الحبيب إلى بلائنا وثباتنا وأشواقنا لنصرة دين ربنا وشريعته.. آه لو كنا معك يا سيدي موسى.
لماذا أرى السيساوية الآن نسخة مكررة من أتباع موسى الذين لم تحرك آية النجاة في قلوبهم شعرة نحو توحيد الله ومحبته، بل ربما تركوا موسى ليبكو فرعون الذي أذلهم وأهانهم، فرغم أن فرعون لم يكن خائنا ولا لصا يسرق مقدرات أمته، فإن السيساوية فعلا يذوبون عشقا في الأعظم خيانة والأفسد والأحقر وقاتل أطيب وأشرف رجال وشباب أمتنا ، فانتظروا يا أوغاد مصير أتباع فرعون مضاعفا أضعافا كثيرة من الويل والعذاب والشعور الدائم بالخسة والندامة.
- عادل الشريف يكتب: مسافات القلوب - الجمعة _10 _فبراير _2023AH 10-2-2023AD
- عادل الشريف يكتب: سينما التهجد - الأربعاء _4 _يناير _2023AH 4-1-2023AD
- عادل الشريف يكتب: حوار ناقص - السبت _22 _يناير _2022AH 22-1-2022AD