وفي حكايات الصديق المصري الشاب أنه لما أزمع طلب حق الحماية في ألمانيا بعدما تعثرت دراسته للدكتوراه بوفاة الدكتور الراعي ورفض بقية البروفسيورات النقطة البحثية التي كان يعمل فيها الصديق، وصعب عليه أن يرجع لوطنه بعد الانقلاب لاتهامه في أواخر عصر مبارك بانتمائه لجماعة الإخوان.. وصل الصديق لمعسكر اللجوء فلقي منظومة متدرجة ومتميزة حتى في الكلمات التي ينبغي أن تُقال لك لتهدئة نفسك وأنت تارك وطنك وأهلك خلف ظهرك حتى لو كنت دجالا أو كذابا مبالغا فهم لا يعلنون ذالك إلا بعد فترة لا تقل غالبا عن السنة تنتهي بمحكمة تقرر قبول منحك حق الحماية أو تعترض على ذالك وتمنحك حق معارضة قرار المحكمة الأولى.
يقول استقبلتني موظفة شابة فأعطتني حقيبة كبيرة بها أغطية ومفروشات ومستلزمات الإقامة الشخصية وصحبته إلى الغرفة الجماعية التي يصل عدد المقيمين بها إلى الثمانية أشخاص موزعين على أربعة أسرة مزدوجة وأمام كل سرير خزانة فردية تمتلك وحدك مفتاحها، ويقول الصديق فقلت على استحياء وبصوت خفيض جدا للموظفة: أليس لديكم غرفة فردية فأنا أحب الإقامة وحدي فنظرت الموظفة مبتسمة وتمنت له إقامة جيدة، وفي الصباح التالي سمع الصديق اسمه في مذياع المعسكر بأن يتوجه لمحل إدارة المعسكر، فالتقى مديرة المعسكر التي قالت له: لقد طلبت غرفة منفردة فهل هذا طلب ضروري أم كمالي، فقال وما الفارق؟، فأجابت لو كان كماليا فسندبره لك بعد يومين وإن كان ضروريا فسندبره لك الآن فابتسم، وقال بل الآن أفضل، فأخذت المديرة سلسلة مفاتيح وسارت أمامه وخلفها صاحبنا وموظف آخر، وفي آخر حدود المعسكر فتحت المديرة باب غرفة بها سرير مزدوج، وعلى الحوائط رسومات جنسية، فقالت المديرة: أنت مسلم وهذه الرسومات لا تليق بك ناظرة إجابته بالتأكيد أو النفي، فقال: نعم هذه الرسومات لا تليق بي وبصلاتي فطلبت منه أن ينتظر لمدة ساعتين أو أكثر قليلا حتى يتمكنوا من إعادة طلاء الغرفة وتنظيفها، وبعد ساعتين فعلا وجد الغرفة جاهزة ونظيفة تماماً وكان موقع الغرفة ساحرا فبابها يفتح في خلاء لا يوجد به إلا الأشجار والزهور فخلفهما توجد غابة واسعة.
كانت موزعة الطعام في المطعم سيدة شابة بدينة مبتسمة دائما تهتم جدا برؤية صاحبنا فتترك مكانها لتحدد للعاملين ما يعطونه من طعام يليق به كمسلم والأطعمة الأخرى التي بها خنزير أو خمر لتمنعها عنه وإيجاد بدائل مناسبة، كان في حالة من الدهشة من هؤلاء الذين يتعاملون معه كوزير بينما كان يأتي إلى هذا المكان ظانا أنه سيشعر أنه إنسان من الدرجة الثالثة أو الرابعة.
حل يوم الترحيل إلى المقر الدائم للإقامة حتى يحل وقت مثوله أمام جهات التحقق من أحقية طلبه تمهيدا لرفع طلبه مصحوبا بسجل التحقيق إلى المحكمة، وفي الساعة المحددة للترحيل وجد مديرة المعسكر تستقبل كل مُرحل في مكتبها على انفراد وتسأله عن أي مشكلات تستطيع أن تسيطر عليها بعد ذلك وتمنحه مظروفا به ثلاثمائة يورو من الفئات القليلة مثل العشرين والعشرة والخمسة لسهولة الإنفاق.. ثم تخرج الأسماء المرشحة لمنطقة ما إلى السيارة المخصصة لترحيلهم، وكانت السيارات عبارة عن ميكروباص بثمانية مقاعد وليس أربعة عشر مقعدا كما في بلادنا المنهوبة، والمقاعد سميكة مريحة يمكن تحويل المقعد الخلفي الذي كان يجلس فيه صاحبنا إلى سرير، مع ستائر فخمة على الزجاج، وكان السائق يصطحب بيانا بالأسماء والمنطقة المحدد نزول الشخص فيها، ويكون النزول أمام مكتب بلدية المدينة الصغيرة التي سيقطنها الشخص وهناك يلتقي الموظف المخصص لتيسير إجراءات إقامته ومع هذا البيان سجل كل شخص كاملا وحاويا كل بياناته وأسباب طلب لجوئه.
كان مقعد صاحبنا في المقعد المجاور لمقبض باب السيارة فلما غادر الشخص الأول السيارة كان على صاحبنا إغلاق الباب فأغلقه مثلما كان يغلق باب ميكروباص مصر فصاح السائق صارخا لهذا العنف في إغلاق الباب، فلما غادر الشخص الثاني قام صاحبنا بتحريك الباب برفق شديد مما جعله لا يتم القفل، فهبط السائق غاضبا يلقن صاحبنا درسا في الإغلاق ويتكلم باللغة الألمانية فلما قال صاحبنا أنه لا يعرف الألمانية وإذا كان يريد الحديث معه فليكن بالإنجليزية، فصاح السائق غاضبا أنا ألماني ولست إنجليزيا وأنت أتيت إلى ألمانيا فيلزمك أن تحدثني بلساني وليس بلسان غيري، لاذ صاحبنا بالصمت مكفهر الوجه والسائق كذالك، ثم حل الدور على الشخص الثالث للمغادرة فامتنع صاحبنا عن إغلاق الباب وقال للسائق هذه سيارتك فتصرف فيها كما يحلو لك فلست بعاملٍ عندك، قال الكلمات بهدوء غاضب فاضطر السائق للنزول وإغلاق الباب، ثم تكرر الأمر مرتين بعد ذلك حتى أصبح صاحبنا وحيداً مع السائق في السيارة، ولما هم السائق بإغلاق الباب للمرة الأخيرة ابتسم لصاحبنا وعرض عليه أن يجلس في المقعد المجاور له واعتذر عن نوبة غضبه فانتقل صاحبنا إلى جواره، فسأله السائق ويبدوا أنه طالع ملفه أثناء نزول الأشخاص: أنت تركت بلادك من أجل الحرية والديمقراطية، أليس كذلك؟ لقد قرأت في ملفك ذلك، فقال صاحبنا نعم لقد حدث انقلاب عسكري على الثورة، فقال السائق: أنا أعلم ما حدث في مصر فلقد كنت معجبا جداً بالثورة على الديكتاتور مبارك، فقد جاءكم الديكتاتور السيسي وقام بقتل المعارضين ومنهم من قتلهم في عربة الترحيل القاسية في الشمس الملتهبة وأغلق عليهم بالقفل الحديدي وفجر من سقف السيارة قنابل الغاز الكيماوي الحارقة والخانقة، حاول صاحبنا أن يتكلم ولكن كأن قنبلة الغاز أطلقت عليه الساعة وهو مع إخوانه داخل السيارة فجعل يبكي ويجهش بالبكاء، فقام السائق بالتوقف عند أحد المطاعم الألمانية فاشترى منها زجاجة ماء وجعل يعطي صاحبنا الماء وعلبة المناديل وهو يمسح على رأسه ويربت على كتفه ويقول لا بد بعد هذه الصعوبات الكبيرة أن تأتيكم أيام سعيدة، لو كان بيدي أمر الإعلام الألماني لعقدت معك لقاءً تليفزيونيا لكي يتذكر الناس جمال الحياة مع الحرية والديمقراطية، أنا الآن أشعر أنني أمتلك حياة سعيدة وغالية جدا بالحرية والديمقراطية، ثم سحب صاحبنا من يده برفق وأدخله المطعم وطلب منه أن يطلب ما يحب فطلب أخونا كأس قهوة فقط بالحليب، فذهب السائق يقول لصاحب المطعم الذي يجلس على كاسة الدفع: صديقي هذا المصري يطلب كأسا من القهوة بالحليب وقطعتي سكر، إنه ترك مصر بعد الانقلاب العسكري الذي حرمهم من الحرية والديمقراطية، إننا سيئون للغاية لأننا لا نشعر بقيمة الأشياء الجميلة التي نمتلكها.. كان الرجل يتحدث الألمانية ثم يتحدث الإنجليزية ليعرف صاحبنا ماذا يقول، ترك صاحب المطعم الكاسة وأحضر قطعتي جاتوه كبيرتين بجوار القهوة وقال للسائق هذه هدية لأنكما ذكرتماني بالأشياء الجميلة في حياتنا.
انصرف السائق وصاحبنا بعدما بدأ صاحبنا يستعيد اتزانه بعد نوبة البكاء، ولما وصلا إلى مقر تسليم صاحبنا نفسه في بلدية المدينة المجاورة للحدود الهولندية قام السائق بحمل حقيبة صاحبنا رغما عنه ودخل معه للمكتب المخصص لاستقباله على غير ما فعل مع الآخرين، أراد الموظف أن يوجه عتابا للسائق على تأخره فأشار له السائق بالصمت حرصا على مشاعر صاحبنا فتفهم الموظف وقال لصاحبنا هيا نسرع لأن البنك متأخر في الإغلاق لفتح حساب لصاحبنا، وفي البنك الذي على مسافة مائتي متر قام مدير البنك بإجراءات فتح الحساب في خمسة دقائق، ثم وضع موظف البلدية 250 يورو في الحساب وقال لصاحبنا أن هذا المبلغ سيوضع في حسابك شهريا حتى انتهاء إجراءات المحكمة وتبعاتها فقام السائق بإعطاء الموظف مبلغ خمسين يورو ليضيفها للحساب ثم كتب إقرارا بخصم خمسين يورو شهريا لمدة سنة من حسابه وسجل في الإقرار رقم حسابه، وكل ذلك لم يعرفه صاحبنا إلا فيما بعد عندما علم أن اللاجئ يتقاضى 250 شهريا وهو يتقاضى 300، فلما علم ذلك طلب من الموظف الذي كان يتعامل معه بشكل مذهل من الأدب والذوق أن يكف السائق عن الدفع وأنه يريد أن يعيد له ما دفعه لكن الإجابة وصلته بعد أيام قليلة أن هذا المبلغ برهان الاعتذار عن إغضاب إنسان رائع يتمنى لبلاده العدل والحرية..
متى سندرك الفارق بين إنسان الحرية وسائق ترحيلات صاحبنا نموذج، وإنسان العبودية الذليلة لأحقر المخلوقين وسائق سيارة ترحيلات رابعة نموذج وكل الضباع الحقيرة من خلفه المتسمون بضباط شرطة وضباط جيش وعصابة من الحكومات القذرة وفريق من الشعب عنصري بغيض حقير، الحرية دين سماوي جليل، إنه الإسلام دين الحرية يا شباب.
- عادل الشريف يكتب: مسافات القلوب - الجمعة _10 _فبراير _2023AH 10-2-2023AD
- عادل الشريف يكتب: سينما التهجد - الأربعاء _4 _يناير _2023AH 4-1-2023AD
- عادل الشريف يكتب: حوار ناقص - السبت _22 _يناير _2022AH 22-1-2022AD