مرّت العلاقات الأميركية الروسية بمراحل عديدة متقلبة ومتفاوتة وفق الظروف وبحسب ما تقتضيه المصالح والأهداف، لكن لطالما سيطر الطابع الصراعي على العلاقة بين الطرفين الأمريكي والروسي منذ نهايات الحرب العالمية الثانية، ونشوء المعسكرين الغربي والشرقي وصولا الى التوتر الذي يعيشه العالم حاليا بسبب الأزمة الأوكرانية، حيث لم تعد الولايات المتحدة القوة المهيمنة لوحدها.
فيرجح المحللون
أن تقليص دورها في مناطق عديدة كالشرق الأوسط أدى إلى بروز قوى إقليمية أخرى مثل روسيا، التي تعد جهة فاعلة عسكريا ودبلوماسيا في الشرق الأوسطّ، بالإضافة إلى امتلاكها مجموعة من المصالح في شمال أفريقيا.
بالنسبة للولايات المتحدة
وجود روسيا في مناطق نفوذها لا يتعارض حاليا مع المصالح الأساسية بشكل مباشر، لكنه يعقد إنجاز هذه المصالح ويضر بها لأن السياسة الروسية مدفوعة من الأساس بهدف الحد من نفوذ الولايات المتحدة،
بالتالي المنافسة ستكون لها أبعاد أخرى مستقبلا، ولكن في كل مرة تظهر في الساحة قضية جديدة تزيد من التوتر بين الطرفين هذا ما جعل تحليل وتفسير العلاقات الأمريكية الروسية يحتاج إلى دراسة مختلف الأبعاد الاقتصادية والسياسية والعسكرية، خاصة في ظل التحديات الحالية.
ولكن هل يمكننا تحليل الصراع الروسي الأمريكي انطلاقا من البعد الجيوبوليتيكي والديني؟
تمتد مناطق التشابك بين روسيا والولايات المتحدة من أوروبا الشرقية إلى الشرق الأوسط وصولا إلى إفريقيا، حيث تتصادم المصالح بين الدولتين في هذه المناطق بشكل متفاوت الحدة، ولكن تحتل منطقة أوروبا الشرقية أهمية قصوى في هذا الصراع على مر التاريخ، باعتبارها امتداد حيوي لروسيا وفي نفس الوقت جزء من أوروبا.
لهذا عمل الباحثون على دراسة أبعاد الصراع الروسي_ الأمريكي الدينية والجيوبوليتكية بشكل عام وفي أوروبا الشرقية بشكل خاص.
البعد الجيوبوليتيكي للصراع الأمريكي الروسي:
تحتل النظريات الجيوبولتيكية مكانة مهمة في تحليل الصراع الأمريكي الروسي، وتمثل نظرية قلب العالم Heartland التي حاول فيها ماكيندر تفسير الحاجة إلى معالجة التوسع الروسي باتجاه الخليج الفارسي، إحدى أهم النظريات المختصة بمجال صراع القوى العالمية، ويتحدث هنا ماكيندر عن صراع القوة البرية والبحرية.
والتي يمكن إسقاطها على روسيا حاليا والدول الأوروبية بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية، حيث يؤكد أنَّ أيَّة قوة بحرية لن تقف في وجه القوة البرية بحكم أنَّ هذه الأخيرة ستكون مسيطرة على هوامش الجزيرة العالمية بما في ذلك القواعد البحرية، كما أنَّ القوة البرية بما تمتلك من إمكانيات بشرية وموارد طبيعية ستكون في مركز أقوى يمكنها من غزو أية قارة أخرى وفرض السيطرة.
تتلخص نظرية قلب العالم لماكندر في الجمل التالية
من يحكم شرق أوروبا يسيطر على العالم
مـن يحـكم قلب العالم يسيطر على جزيرة العالم
من يحكم جزيرة العالم يسيطر على العالم بأسره
لهذا إذا قمنا بالإسقاط فالقوة البرية تتمثل في روسيا حاليا التي تعتبر أكبر دولة من حيث المساحة ومسيطرة على مساحة برية كبيرة وتعتبر دولة حبيسة في قارة آسيا،
بالمقابل أوروبا والولايات المتحدة القوى البحرية التي تمتلك إطلالات واسعة على المحيطات بل محاصرة بحريا خاصة الولايات المتحدة .
ويؤكد ماكندر على أن الوضع الجيوبوليتيكي الأفضل لكل دولة هو الوضع المتوسط المركزي،
والقارة الأوراسية تقع في مركز العالم ويقع في مركزها قلب العالم،
وهو تجمع الكتل القارية لأوراسيا، وهذا الجسر الجغرافي الأكثر ملائمة للسيادة على العالم بأسره.
مخاوف الولايات المتحدة من السيطرة الروسية
بالتالي هذه الفكرة لطالما أثارت مخاوف الولايات المتحدة من السيطرة الروسية بسبب موقعها الجغرافي
وبالمقابل تعمل على محاصرة روسيا عن طريق توسيع الحلف الأطلسي وضم أكبر عدد ممكن من دول أوروبا الشرقية لتجميد التوسع الروسي.
وتعتبر الأزمة الأوكرانية حاليا نقطة مهمة في هذا التوتر العميق والذي يحمل في طياته الكثير من الأبعاد،
حيث تعمل روسيا منذ تفكك الاتحاد السوفيتي على بسط نفوذها والحفاظ على تواجدها في الجمهوريات السوفيتية السابقة والتي تمثل امتداد حيوي لروسيا بل جزء من أمنها القومي.
بالمقابل تتخوف الولايات المتحدة من هذا النفوذ الروسي، الذي يقلص من مساحة تحكمها
ويزيد من توسع مناطق التواجد الروسية خاصة في أوروبا التي تعتبر مهمة جدا بالنسبة للولايات المتحدة
لاستمرار الهيمنة وكبح تمدد الدول الشرقية ( روسيا وحتى الصين ).
المقاربات الجيوبوليتيكية الأخرى المهمة
ومن بين المقاربات الجيوبوليتيكية الأخرى المهمة أهي أفكار فريدريك راتزل والجيوبوليتيكا العضوية،
حيث آمن راتزيل بأفكار داورين في التطور البيولوجي التي كانت سائدة في نهاية القرن التاسع عشر،
ووضع صياغته لتحليل قوة الدولة لديه أشبه الداروينية حيث يؤكد أن الدولة لا تثبت حدودها السياسية،
وكانت الدولة لديه أشبه بإنسان ينمو فتضيق عليه ملابسه عامًا بعد عام، فيضطر إلى توسيعها،
وكذلك ستضطر الدولة إلى زحزحة حدودها السياسية كلما زاد عدد سكانها وتعاظمت طموحاتها.
وانطلاقا من وجهة نظر راتزل فالدولة يجب ان تتجاوز حدودها وتخترقها كلما اقتضت مصلحتها التوسع.
هذه الفكرة بدورها تثير مخاوف الولايات المتحدة الأمريكية،
فروسيا في إطار منافستها الإقليمية والعالمية لإعادة بناء نظام دولي متعدد الأقطاب تعتمد على هذه النظرية بشكل كبير في سياستها مع دول أوروبا الشرقية،
فهي تعتبر جمهوريات الاتحاد السوفييتي السابقة امتداد حيوي لها وتدخل في إطار مجالها الطبيعي، ويبرز هذا بشكل واضح في تحركاتها السياسية وحتى خطابات الرئيس بوتين.
ويعتبر احتلالها لجزيرة القرم بداية توسعها الحيوي،
والأزمة الحالية واحتمالية اجتياح أوكرانيا دليل آخر على ثبات الرغبة الروسية التوسعية،
لأن حسب اعتقاد بوتين من يسيطر على أوكرانيا غير روسيا من شأنه آن يشكل تهديدا للأمن الروسي، سواء كان الولايات المتحدة أو حلف الناتو.
ولا تقتصر مخاوف التمدد الروسي في الشرق الأوروبي على الجانب الأمني والسياسي فقط، فالولايات المتحدة تدرس احتمالات التمدد الديني الأرثوذكسي إلى شرق أوروبا ومدى تأثيره على دول المنطقة وهذا ما يؤسس لخلاف ديني بين الطرفين.
البعد الديني في الصراع الأمريكي الروسي:
يرجح الكثير من الدارسين أن البعد الديني للصراع الأمريكي الروسي يبدأ من المنطلقات التوراتية المحرفة التي تمثل جزء كبير من التوجه السياسي الأمريكي بالإضافة إلى الخلاف بين الأرثوذكس والبروستانت أو المسيحية الصهيونية.
فبداية عند الحديث عن دور الدين في صناعة القرار في الدولتين يعتبر فصل الدين عن الدولة من المعتقدات الأساسية في الفكر الأمريكي السياسي وحتى الروسي لكن هناك اختلاط كبير للدين بالنشاط السياسي.
ففي الولايات المتحدة
قد أدى هذا الخلط إلى وجود نوع من الانفعالية الدينية التي تدخل بطريقة أو بأخرى في التصريحات التي يلقيها القادة السياسيون والزعماء،
هذا ما جعل الولايات المتحدة تظهر كدولة دينية في كثير من الأحيان ويبرز هذا في الوثائق التأسيسية للأمـة، والتي تم تعزيزها مـن خـلال الخطـب الرئاسية.
إن المؤمنين بأهمية الدين في السياسة في الولايات المتحدة يبررون هذا التوجه أن الفصل بين الكنيسة والدولة لم يحرم العالم السياسي
أو صانع القرار من البعد الديني، وقد عبر عن هذا روبرت بيلاه في مقالته عام 1967، تحت عنوان «الدين المدني في أميركا».
الدين والإيمان وتأثيره على الممارسة السياسة
ويعتبر الرئيس الأميركي ولسون أحد الرؤساء الأكثر تأثراً بالصهيونية منذ طفولته،
وأيضا مع وصول اليمين السياسي إلى الحكم في الولايات المتحدة، ومجيء ريغان الذي بنى برامجها السياسية والاقتصادية على مبادئ دينية.
حيث في أحد خطابات رونالد ريغن في دالاس، تكساس في حفل ديني سنة 1984
تحدث عن دور الدين وتأثيره على الممارسة السياسة في الأمة الأمريكية
وقال إن الدين والإيمان لطالما كان ولا يزال له دور حاسم ومهم في الممارسة السياسة في امتنا وان الكنيسة تمتلك اهمية كبيرة وهذا ما شكل مكسب كبير لامتنا.
وأضاف أن ميثاق ماي فلاور (قواعد الحكم الذاتي التي وضعها المستوطنون الإنجليز)
قد بدأ بكلمات باسم الرب، وإعلان الاستقلال يناشد إله الطبيعة وخالقها والقاضي الأعلى في العالم…)
واستمر ريغن في هذا الخطاب في الاستشهاد بتصريحات لصناع قرار وقضاة وشخصيات مهمة في الولايات المتحدة تؤمن بدور الدين في صنع السياسة
بل تعترف بان الولايات المتحدة ليست دولة علمانية بل هي فعلا دولة دينية .
الصهيونية المسيحية
ويتمثل البعد الديني في الولايات المتحدة خاصة في السياسة، في الصهيونية المسيحية التي ترتبط بشكل كبير بالكنيسة البروتستانتية، فالمصادر التاريخية تؤكد على العلاقة العضوية بين الاثنتين،
فالصهيونية باختصار هي أيديولوجية تؤيد قيام دولة قومية يهودية في فلسطين بوصفها أرض الميعاد لليهود.
وصهيون هو اسم جبل في القدس وتقول بعض المصادر إنه اسم من أسماء القدس.
أما الصهيونية المسيحية فهي الدعم المسيحي للفكرة الصهيونية،
وهي حركة مسيحية قومية تقول عن نفسها إنها تعمل من أجل عودة الشعب اليهودي إلى فلسطين وسيادة اليهود على الأرض المقدسة.
ويعتبر الصهيونيون المسيحيون أنفسهم مدافعين عن الشعب اليهودي خاصة الكيان الصهيوني، ويتضمن هذا الدعم معارضة وفضح كل من ينتقد أو يعادي الدولة العبرية.
وبالنسبة لروسيا
فعلى الرغم أن الدستور يقر أن الاتحاد الروسي دولة علمانية ولا يجوز اعتماد أيّ ديانة كدين للدولة،
لكن نسبة المسيحيين الأرثوذكس في روسيا كبيرة جدا،
بل لهم دور متصاعد في الحياة العامة بل حتى في السياسة، حيث تزايدت مواقف الكنيسة المعلنة تجاه مختلف القضايا السياسية، وأعلنت دعمها الكامل للحملة العسكرية في سوريا،
واصفة إياها بالمقدسة،
وأغلب مواقف الكنيسة مناصرة لقرارات الرئيس الروسي حيث يحظى بوتين بمناصرة العديد من رهبان وقساوسة الكنيسة الروسية.
ومن هنا نقطة الخلاف الأولى حيث الكنسية الأرثوذوكسية تتخذ موقف معارض للصهيونية،
وهذا حسب اعتقادهم للدفاع عن المسيحية بالدرجة الأولى التي تأثرت بالصهيونية وانحرفت،
بالإضافة إلى موقفهم من الصهيونية المسيحية التي تعمل على إدخال أفكار لاهوتية غريبة على المسيحية
لأهداف تصب في مصالح سياسية «إسرائيل» وقد قوبلت بالرفض.
ويؤكد الروم الأرثوذكس
أن ما يجعلهم يتشددون في رفض الصهيونية المسيحية اعتقادهم بأن التفسيرات والتحليلات الصهيونية للكتاب المقدس هي تفسيرات وتحليلات سياسية وغير روحانية.
فهي تقوم على تفضيل الطقوس العبرية في العبادة على الطقوس الكاثوليكية بالإضافة إلى دراسة اللغة العبرية على أساس أنها كلام الله،
بالتالي يرجح الكثير من المحللين أن النصوص التوراتية المحرفة هي المصدر الأساسي لكثير من السياسات الأمريكية، على رأسها دعم قيام الدولة العبرية.
وان هذا الدعم سيحقق لا محال مصالح كثيرة للولايات المتحدة الأمريكية،
فبعيدا عن الإيمان بقيم الصهيونية والتقارب الديني إلى أن المصلحة لها دور كبير في هذه العلاقة العضوية،
فإن تواجد الكيان الصهيوني في الشرق الأوسط معناه امتداد للنفوذ الأمريكي وتحقيقا لمصالحها الاقتصادية والسياسية والأمنية.
الصهيونية اليهودية والمسيحية
فان أبرز ما يجمع الصهيونية اليهودية والمسيحية في الفكر الصهيوني هو الاعتقاد بالقوة باعتبارها الطريق الصحيح لتحقيق الأهداف السياسية.
فـ«الكيان الصهيوني» والقوى المسيحية الأصولية تعتقد بصنع الأسلحة الذرية و بالتسليح الأميركي لـ«الكيان الصهيوني»
من أجل هزيمة العرب والسوفييت معا، بالتالي فالحرب والصراع هي الطابع الغالب على التصور الديني للولايات المتحدة. الولايات
وقد استخدمت الولايات المتحدة، الصهيونية سابقا في صراعها مع السوفييت وحتى بعد تفككه، فخلال السنوات القليلة السابقة لانهيار الاتحاد السوفييتي،
والتالية لظهور روسيا الاتحادية كدولة مستقلة، تمكن اللوبي الصهيوني من فرض سيطرته على مختلف جوانب الحياة الروسية،
وأصبح اليهود يمثلون نسبة تتراوح بين ثلث ونصف شاغلي المناصب السياسية والاقتصادية والإعلامية والثقافية والعلمية الهامة في روسيا.
ويرجح المحللون
ان التغلغل الصهيوني واسع النطاق في فترة من الفترات كان له تأثيراته السلبية الخطيرة على الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية في روسيا،
وعلى سياستها الخارجية عموما، بالتالي هذا يمثل بعد آخر للصراع
ويوضح أسباب التخوف الروسي من التمدد الصهيوني على الرغم من وجود نسبة كبيرة من اليهود في روسيا إلى أن المنطلقات التي تحرك الصهيونية
تثير الكثير من الشك حول التحركات المحتملة، فالنشاط الصهيوني يبرز بين يهود روسيا لاستغلالهم.
ويجادل الكثير من الباحثين المهتمين بالبعد الديني والتاريخي انه هناك دور خفي للنبوءات التوراتية المحرفة
أو ما يطلق عليها بالروايات التوراتية في تحليل الصراع الغامض المحتمل بين مملكة الشمال والجنوب
والذي يتم إسقاطه تارة على روسيا وتارة أخرى على المسلمين،
حيث يتم الحديث عن حرب محتمل وقوعها بين مملكة الشمال ومملكة الجنوب،
وتتحدث هذه المصادر المحرفة أيضا عن طابع الاستمرارية في الصراع بين ملوك الشمال والجنوب وتجددها،
وتعبير «ملوك» يشير إلى قادة أقوياء سيأتون من مناطق الشمال و الجنوب بالنسبة لـ«الكيان الصهيوني» ليسيطروا على المنطقة.
حيث تعتبر «الكيان الصهيوني» في هذه النبوءات هي نقطة الالتقاء والمنطقة التي سيحدث فيها الصراع، لوصول ملوك الشمال إلى هدف أساسي وهو عودة المسيح و إقامة مملكة «الرب» على الأرض.
يرى الدارسون لهذه النصوص والمؤمنون بها
أن مملكة الشمال ستعمل على إعادة إحياء الإمبراطورية الرومانية انطلاقا من أوروبا،
حيث ورد في كتابهم (سفر دانيال 11) أنّ ملك الشمال الذي تحدث عنه
كما يبدو سيكون الحاكم الأخير في آخر هذا الزمان و الذي سيحكم دولة تتمركز في أوروبا.
وورد في نفس المصدر ص:11 ع:40 «نرى أن جيوش هذين القائدين ملك الشمال وملك الجنوب ستتحارب»:
«ومتى حان الوقت يحاربه ملك الجنوب، فيسرع إليه ملك الشمال بمركبات وفرسان وسفن كثيرة و يدخل الأراضي ويجتاحها ويعبرها».
هنا الحديث عن المراكب والسفن يجعلنا نتوقع أن المملكة المقصودة في الشمال هي مملكة بحرية وليس برية،
يتم إسقاط الهجمات الإرهابية التي شهدها العالم منذ 2001 على أنها بداية حرب مملكة الجنوب ضد مملكة الشمال.
وملك الشمال، وهو قوة الوحش المستوطن في أوروبا، سيكون منصوراً في هذا الصراع، لأنه سيغزو الأراضي المقدسة و يطيح بالعديد من الدول (ع:41)
هذه المنطلقات الدينية أو التوراتية المحرفة ضبابية إلى حد كبير،
حيث يغيب فيها المحدد الزمني وحتى المحدد الجغرافي، حيث لم يتم تحديد أي دلالة واضحة على موقع المملكة الشمالية التي يطمحون لإحيائها بل بقيت مجرد روايات،
وحتى بالنسبة لمملكة الجنوب فيتم النظر لها مرة على أنها العرب والمسلمون،
ومرة أخرى يتم الإشارة على أنها تمثل الدول الشرقية روسيا والمناطق المحيطة بها وربما حتى الصين.
ولا يتوقف البعد الديني للصراع الأمريكي الروسي في المنطلقات التوراتية فقط، بل يمتد للخلاف القائم ما بين البروستانت والأرثوذكس أيضا،
حيث يمكن إرجاع الاختلاف في الرؤى والأهداف بين الطرفين إلى الاختلاف الديني الذي يعتبر عميق إلى حد ما.
ويمكن ملاحظة الخلاف بين وروسيا الولايات المتحدة
في تخوف هذه الأخيرة من التمدد الروسي شرقا، أو تمدد الكنيســة الأرثوذكسـية نحو أوروبا الشرقية لخدمة مصالح سياسية وهذا ما سيضعف التواجد الأمريكي.
فعلى سبيل المثال تمتلك الكنيسة الأرثوذكسية الروسية نفـوذ ديني على الكنائس الأوكرانية،
غير انه مـع اندلاع الأزمة الأوكرانية فـي 2014 واجه نفوذهـا تحديا كبيرا،
وهـو مـا وضح في انقسام البطريركيات بين بطريركيـة حافظت على تبعيتها إلى موسكو،
في حين أن الثانيـة انفصلت مؤسسة بطريركية أوكرانيا، وذلـك بإيعاز من السلطات الأوكرانية.
مخاوف السلطات الأوكرانية
وتعـود مخاوف السلطات الأوكرانية مـن علاقـة البطريركية الروسية بنظيرتها الأوكرانية
إلى سنوات سبقت نشوب أزمة شرق أوكرانيا، حيث كانت دائما تتخوف من استغلال موسكو لهذه العلاقة في تمرير خططها السياسية.
ويبدوا أن هذا الخوف لا يقتصر على أوكرانيا فقط بل هو مشترك مع الولايات المتحدة الأمريكية
التي تدعم أوكرانيا حاليا في أزمتها مع روسيا، حيث تمثل هذه الأزمة من أهم النقاط الخلافية بين الدولتين (الولايات المتحدة الأمريكية وروسيا)
فبنفس الطريقة التي تعمل بها الولايات المتحدة على استغلال المسيحية الصهيونية والتواجد الإسرائيلي لتحقيق مصالحها في الشرق الأوسط،
وربما حتى للضغط على روسيا ومحاصرتها، لدى موسكو القدرة على استغلال البعد الديني والكنيسة الأرثوذوكسية
لدعم تحركاتها السياسية وتمددها نحو الشرق لحماية القيم المسيحية من الصهيونية
أو لحماية المواطنين في أوكرانيا ومختلف الدول الشرقية من التمدد الغربي.
البعد الديني والجيوبولتيكي لتحليل العلاقات الأمريكية الروسية
إن الربط بين البعد الديني والجيوبولتيكي لتحليل العلاقات الأمريكية الروسية ليس بالأمر الصعب فروسيا الأرثوذوكسية هي القوة برية،
التي تنبأت الدراسات الجيوبولتيكية حول احتمالية صدامها مع القوة البحرية المتمثلة في الولايات المتحدة الأمريكية البروتستانتينية.
والاختلاف بين روسيا الولايات المتحدة لا يقتصر فقط على البعد الديني الذي يمثل أحد مجالات المنافسة الأمريكية،
وأحد أبعاد التحليل فالبعد الجيوبولتيكي أيضا بدوره من أهم أبعاد تفسير العلاقة بين الدولتين،
فقد عمل المحللون على استخدام الفرضيات الجيوبولتيكية حول المنافسة البرية والبحرية لتحليل طبيعة التفاعل بين الولايات المتحدة الأمريكية وروسيا.
فعلى الرغم من أهمية البعد الديني في تحليل العلاقات الدولية،
وتأثيره بشكل كبير على عالم السياسة إلى أن هناك من يعتبر التمسك بالدين والقيم عبثية ولا عقلانية، فلا يمكن تطبيق نفس المبادئ الأخلاقية والدينية على كل الدول،
وهذا سيؤدي إلى صدام بين الدول المختلفة،
ولكن يمكننا استخدام الدين بطريقة براغماتية للتأثير على دول معينة، لخدمة مصالح محددة،
فكل من الولايات المتحدة وروسيا تستخدم الدين خدمة لمصالح سياسية بالدرجة الأولى.
عقيدة جديدة تغاير الأيديولوجية الشيوعية
ففي روسيا مثل الدين إحدى الأدوات التي ارتكنت إليها الحكومة فـي محاولتها لبناء الدولة الروسية،
وإيجاد عقيدة جديدة تغاير الأيديولوجية الشيوعية المنهارة، والقيم الليبرالية الغربية التي تنظر إليها النخبة الحاكمة في الكرملين بشك كبير،
والكنيسة الروسية تحولت إلى أداة بيد الكرملين، يستخدمها
لإضفاء قدسية على سياساته الداخلية والخارجية مقابل منحها امتيازات هائلة لا تملكها أي مؤسسة مدنية أخرى في البلاد.
والولايات المتحدة الأمريكية بدورها من أكثر الدول التي تعتمد البراغماتية والعقلانية
كمدخل أساسي لكل سياساتها مما يجعل الصهيونية السياسية ما هي إلى أداة واحدة من بين أدوات عديدة لتثبيت الهيمنة الأحادية.
والعلاقة مع «الكيان الصهيوني» ما هي إلى تعاون لوجود تطابق بين مصالح الطرفين بطريقة عميقة. فما يحقق مصلحة أميركا صالح لتحقيق مصالح إسرائيل الكبرى، والعكس صحيح .
لكن التحليل من منطلق جيوبوليتيكي صالح في كل الأوقات،
فهو تحليل الذي يجمع ما بين البعد المادي والمعنوي وما بين البراغماتية والقيم وحتى الدين،
وهذا ما بجعله اكثر قدرة على تحليل وتفسير العلاقات الأمريكية الروسية المضطربة.
شروق مستور: باحثة وكاتبة في تخصص العلاقات الدولية
مركز الفكر الاستراتيجي للدراسات