فتحت الحملة الفرنسية الصليبية على مصر عام ١٧٩٨ ثغرة خطيرة في قلب العالم العربي وكان لها الأثر العميق في نشر الجاهلية السياسية الغربية،
فبعد هذه الحملة الصليبية حدث تحول سياسي كبير في الخلافة العثمانية
بتبني السلطان محمود الثاني لبرنامج إصلاحات كبير تبنى فيه الفكر السياسي والإداري الغربي في محاولة للحاق بالركب الأوربي وإخراج الدولة من ضعفها،
فبدأت مع هذا التوجه البعثات العلمية للطلاب المسلمين للدراسة في الجامعات الغربية ليكونوا هم الجيل الجديد من رجالات الدولة بثقافة وزي غربي،
وهذا ما سار عليه محمد علي باشا والي مصر بعد خروج الحملة الفرنسية سواء في مجال الإدارة أو التعليم،
وانتشرت في القرن التاسع عشر الكليات التبشيرية الغربية في تركيا والشام ومصر والعراق والمغرب العربي
وتحولت لاحقا في القرن العشرين إلى جامعات كالجامعة الأمريكية في بيروت والقاهرة وجامعة بوغازتشي في إسطنبول،
وهذا ما حاول مقاومته الخليفة عبد الحميد الثاني رحمه الله لإدراكه خطورته على الأمة والدولة وأطلق مشروعه (الجامعة الإسلامية)
لينهض بالأمة وشعوبها وينقذها من الهيمنة الصليبية القادمة، لكن بريطانيا تمكنت من القضاء على مشروعه بانقلاب عام 1908 والذي نفذه رجالها الذي تربوا وتعلموا في مؤسسات الغرب وجامعاته كما وصفهم الخليفة عبد الحميد في مذكراته بأبناء الإنجليز!
وبعد احتلال بريطانيا لمصر عام 1882
بدأ التحول العميق في العالم العربي بإشراف وإدارة المبشر دوغلاس دنلوب مسئول التعليم في مصر
الذي وضع المناهج التربوية والتعليمية للمؤسسات العلمية المصرية ومنها انتشر في المشرق العربي المنهج الثقافي والعلمي البريطاني،
وفي المغرب العربي انتشر المنهج الثقافي والعلمي الفرنسي، وهكذا تقاسمت بريطانيا وفرنسا الثقافة العربية والتعليم وهيمنتا عليها
ليمهدوا الطريق لاحتلال العالم العربي وتقسيمه بينهما في اتفاقية سايكس بيكو بعد سقوط الخلافة العثمانية!
وآتى أكله الاستثمار الصليبي في رجال النهضة عندما قاموا بدورهم الوظيفي في مواجهة واحتواء الثورات بعد سقوط الخلافة العثمانية.
وثورة 1919 في مصر أوضح نموذج على الدور الوظيفي لنخب هذه النهضة الوظيفية لمواجهة واحتواء الثورات في العالم العربي من الخليج إلى المحيط!
فمع قيام ثـورة 1919 التي فاجأت المحتل البريطاني استدعى القائد العسكري العام البريطاني في القاهرة أعضاء من الوفد المصري لمؤتمر فرساي
الذي تشكل من سعد زغلول وعبدالعزيز فهمي وعلي شعراوي ومحمد محمود وأحمد لطفي السيد الذي وصف ثورة 1919 في مذكراته «قصة حياتي» بالخطر الذي لم نتوقعه،
وكشف لطفي السيد
والذي يعد المرجع الفكري التاريخي لليبراليين العرب في مذكراته ما دار في هذا اللقاء بينهم وبين القائد العسكري البريطاني وحقيقة موقفهم من الثورة
فيقول لطفي السيد
(حمَّلنا القائد العام -البريطاني- مسئولية الثورة فأجبته بأن الوفد برئ منها…
وإني أنصح السلطة العسكرية أن تستدعي حسين رشدي باشا أو عدلي يكن أو ثروت باشا
ليؤلف وزارة تعمل على ترضية الأمة ترضية كافية وبهذا يقضى على الثورة)
قصة حياتي صـ 107-108
وهذا ما حصل فتم القضاء على ثورة 1919 بنصيحة المفكر الليبرالي لطفي السيد!
واستمر حزب الوفد المصري الليبرالي بأداء دوره السياسي الوظيفي بقيادة سعد زغلول ثم مصطفى النحاس تحت رعاية القصر وحماية المندوب السامي البريطاني
حتى انكشف دوره الوظيفي وارتباطه بالمحتل البريطاني في حادثة 1942
عندما فرض الجنرال البريطاني على الملك تكليف حزب الوفد لتشكيل الحكومة المصرية
لتنفيذ السياسة البريطانية العسكرية في الحرب العالمية الثانية
لتكون مصر شعبا وثروة في خدمة المجهود العسكري البريطاني لمواجهة ألمانيا النازية!
وعلى خطى هذا النموذج الوظيفي (حزب الوفد المصري الليبرالي)
سارت الأحزاب والجماعات الوظيفية في العالم العربي سواء القومية أو الليبرالية أو اليسارية أو الإسلامية بأداء أدوارها الوظيفية
والاصطفاف مع قوى الاحتلال الصليبية والأنظمة العربية
منذ الثورات العربية في القرن العشرين إلى ثورات الربيع العربي في القرن الحادي والعشرين!
وكما تم احتواء ثورات القرن العشرين بالقوميين والليبراليين واليساريين
فقد تم احتواء ثورات الربيع العربي في القرن الواحد والعشرين بالإسلاميين،
وما كشف حتى الآن من هذه الأدوار الوظيفية الخطيرة ليس إلا رأس جبل جليدي شيطاني!
ومع هذه الردة الجامحة والجاهلية المعاصرة بالتبعية للغرب الصليبي سياسيا وثقافيا
فلا زالت نخب هذه التيارات الوظيفية تعد تلك الجاهلية نهضة ينبغي المحافظة عليها
والاستمرار على خطها وتفتح لهم ولدعوتهم الأنظمة العربية والمؤسسات الدولية الأبواب وتدعمهم لنشر أدبيات هذه النهضة الوظيفية،
حتى أصبحت القوى الصليبية ونظامها الدولي ومجلس الأمن والأمم المتحدة
هي المرجعية للحركة الإسلامية بأحزابها وفصائلها المقاومة في قضايا الأمة
لتسير بذلك على خطى الوفد المصري الليبرالي والوفود السورية والفلسطينية والعراقية القومية
التي اعتبرت مبادئ الرئيس الأمريكي ويلسون وعصبة الأمم هي المرجعية التي يستجدون منها للحصول على الاستقلال!
وهذا الاستقلال
لن تناله الأمة ما لم تتخلص من هذه الجاهلية وسدنتها من نخب وجماعات وأحزاب فهم السد الذي يحمي الاحتلال والاستبداد من طوفان الثورة،
وبهم اخترق العدو ثورات العالم العربي واحتواها منذ ثورة مصر 1919
وثورة العراق 1920 وثورة سوريا 1925
وثـورة عمر المختار في ليبيا وثورة عبد الكريم الخطابي في المغرب
وثورة الجزائر 1954 وثورة اليمن 1962 إلى ثورات الربيع العربي 2011!!
فهذه النهضة الوظيفية حقيقتها كشفها نابليون بونابرت قائد الحملة الفرنسية على مصر قبل قرنين بوصيته لجنرالات حملته الصليبية
(أرسلوا شباب مصر للدراسة في فرنسا لينبهروا بنهضتها ويتعلموا في جامعاتها ليكونوا حزب لنا في مصر)
فرجال هذه النهضة الوظيفية ولو رفعوا شعارات الحرية والديمقراطية
أو الإسلام هو الحل فهم رجال النظام الدولي الصليبي داخل حصون الثورة!
﴿وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ ۖ وَإِن يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ ۖ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُّسَنَّدَةٌ ۖ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ ۚ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ ۚ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ ۖ أَنَّىٰ يُؤْفَكُونَ﴾
- سيف الهاجري يكتب: كيف تنظر القوى الغربية لتركيا؟ - السبت _28 _يناير _2023AH 28-1-2023AD
- سيف الهاجري يكتب: اعتراف لا جديد فيه! - السبت _14 _يناير _2023AH 14-1-2023AD
- سيف الهاجري يكتب: الربيع العربي.. ومرجعية فرساي! - السبت _7 _يناير _2023AH 7-1-2023AD