هناك طوق أمني جديد يتشكل في الشرق الأوسط بقيادة الصين لإحداث اختراق أمني واقتصادي توج بسلسلة من الاتفاقات الثتائية ابتداء مع كل من الجزائر السعودية ومصر، وبذلك تكون استكملت مثلثا جيواستراتيجيا مهما كان تقليديا محسوبا على المحور الغربي، ثم استثمرت هذا المثلث كمنصة لرعاية تقارب سعودي إيراني بثقل صيني كبير.
ويبدو أنها سحبت بذلك البساط من المبادرة الأمريكية لرعاية طوق أمني جديد عربي صهيوني لتحديد الشهية الايرانية النووية، والذي تعتبر «اتفاقية أبراهام» أساسه المفاهيمي والإجرائي.
وعندما نقابل سلوك الطوق الأمني الذي يضم الصين ثم روسيا متبوعا بإيران واذرعها
أمام الطوق الغربي ويضم كلا من الجانب الأمريكي الأوروبي التركي والصهيو-الخليجي
سنجد درجة عالية من التأهب والإصرار عند الطوق الشرقي أمام حالة من انسداد الأفق والكثير من التردد عند الطوق الغربي،
– فنجد ان الصين «فرضت» نفسها منافسا استراتيجيا لأمريكا والأخيرة “قبلت” المنافسة على الندية
– روسيا «فرضت» جغرافيا سياسية جديدة بالقوة وأدخلت الغرب في «ردة فعل» فيها الكثير من التردد
– إيران «أجهضت الدور السعودي كمنافس استراتيجي إقليمي لها في الشرق الأوسط» بنشاط امني وعسكري متتال وصل لحد قصف منشآتها النفطية مقابل «انعدام الرد المكافئ» وتلكؤ الظهير الأمريكي حتى على مستوى الإدانة .
وإذا أردنا أن نصف المشهد استنادا إلى أبسط قواعد الاسترتيجيا المستندة إلى مبدأ «مقاربة القوة»
فيمكن القول أن المنطقة يتم تسليمها تدريجيا (خوفا من فراغ تملأه قوى إسلامية سنية) إلى إيران باعتبارها العميل الشرقي الجديد و الغربي القديم. وكل ذلك برعاية صينية روسية وتفاهمات أوربية مرتبكة،
ولم نسمع إلا إبداء التشكك والسخرية من الطرف الأمريكي عندما صرح وزير خارجيتها بلينكن أن الصين وبذكاء استثمرت (يعني سرقت)جهود أمريكا لسنتين وهي تحاول التقريب بين السعودية وإيران.
باختصار تم تسليم منطقة الخليج لإيران وهي مسالة وقت حتى يعلن ذلك صراحة وأظن أنها ستكون مع إعلان أول قنبلة نووية إيرانية وربما قريبا جدا
وسيتضح أن ماراثونات مفاوضات النووي الإيراني كانت فقط عملية تأهيل ذكية يمكن إيران من النووي لإخضاع المنطقة السنية
ويبدو أن تركيا فهمت ذلك متأخرة بمباركتها التقارب السعودي الإيراني
وقبولها بالمبادرة الصينية كمنصة للتفاوض في الأزمة الأوكرانية
والتزامها بالحياد (لا تريد أن تكون طرفا) أمام أي نزاع عسكري.
وتقاربها أكثر مع روسيا وإيران في الملفين السوري والكردي في العراق.
كيف سيؤثر ذلك على الملف السوري؟
١- هناك إرادة كل القوى الآن بطوقيه الشرقي والغربي إعادة تأهيل العصابة الأسدية والتطبيع معه، والموقف الأمريكي هنا الاعتراض وليس المنع
والغرض المعلن هو توحيد جهود «مكافحة الإرهاب» ولكل إرهابه طبعا.
٢- التزاحم الشديد بين القوى الموجودة في سوريا سيؤدي إلى مزيد من الاحتكاك وحتى الصدام
كما حدث بين القوات الأمريكية والمليشيات الإيرانية من قصف متبادل أسفر عن قتلى وخسائر
والوضع مرشح للمزيد من الاحتكاك ببن مختلف القوى .
٣- التزاحم سيخلق تتاقضات وهي بدورها ستخلق فراغات ومسارات جديدة للقوى السورية الفاعلة على الأرض، وسيتدفق إليها تمويلا وأدوات عسكرية غير تقليدية وغير مسبوقة.
٤- العصابة في سورية ستحاول أن تطبق المزيد من التوحش لكن استغراق الصين في الدفاع عن محيطها وبحرها و استنزاف روسيا في أوكرانيا وتوتر إيران في أذربيجان واليمن ولا زالت تحت صدمة قلاقلها الداخلية، وتحرير أفغانستان.. كل ذلك سيحد من العنصر البشري المقاتل إلى جانب عصابات الأسد، وقد نشهد القليل من الشركات الأمنية والمرتزقة تتدفق لسوريا فقد التهمتها أوكرانيا وإذا شهدنا التصعيد هناك فالأمر سيكون الأمر أكثر تعقيدا لنقل مرتزقة إلى سوريا.
٥- يبقى سيناريو قائم ومهم تخشاه كل القوى الموجودة في سوريا ، وهو أن تشكل الكتلة البشرية العائدة بعد الزلزال التركي إلى الشمال (حوالي 60 ألفا) موردا بشريا مهما للقوى الإسلامية وذخرها الاستراتيجي لكن ليس لهم أي قدرة لمنع ذلك.
لماذا قبلت السعودية بتراجع نفوذها؟
لسببين رئيسيين:
١- يبدو واضحا أن السعودية ومعها الإمارات دخلتا في مراجعة عميقة لخياراتهما الاستراتيجية التي باءت جميعها بالفشل الذريع ورهاناتها الكبرى التي خذلتهما خذلانا كبيرا.
فراهنتا دوليا على أمريكا فاستنزفتهما فيما يسمى بالحرب العالمية على الإرهاب الإسلامي وكانت النتيجة الهزيمة المدوية لهم جميعا فكانت تحرير أفغانستان وتم طرد حليفتهما فرنسا من مالي وبوركينافاسو وتم طردهما من الملف السوري والعراقي وتقوية الحوثي في اليمن، وتوجهت كلا من مصر والجزائر شرقا نحو الصين
حتى الرهان على مستوى النظم الوظيفية فكل الرهانات كانت على منظومات حكم مستبدة او فاسدة
فراهنوا على الحكومة العراقية التي فتتها حليفتهم أمريكا
وراهنوا على الانقلاب في تركيا ضد اردوغان
وراهنوا على عقيلة وحفتر في ليبيا وعلى هادي صالح في اليمن وعلى الحريري في لبنان
والغريب انه في الوقت الذي كانت إيران تمتن هلالها الشيعي كانت السعودية والإمارات يفتتون البيت الخليجي بحصار قطر
وراهنوا على الثورات المضادة ضد رياح التغيير التي كانت ممكن أن تخلق وضعا إقليميا لصالحهم
إلا أن كل تلك الرهانات خابت وخسرت
إن لبنان وتونس على حافة الإفلاس ومصر واليمن على حافة الجوع والعطش والعراق يعاني من ضياع الهوية الحقيقة يمكن القول أن العقل الخليجي أصيب بحول استراتيجي كامل.
٢- الأمر الثاني هو التردد الأمريكي القاتل، ولتعزيز مكانتهم إقليميا اختارت دول الخليج الضامن الصيني لوقف المزيد من الخسائر، لكن لم تختبر الصين بعد على هذا المستوى من التنافس الدولي. وسنرى ما سيحدث.
وعلى أي حال يبدو أن آخر الدواء الكي
فدول الخليج اختارت الضامن الصيني الذي يستطيع أن يلجم الجشع الإيراني بعد فشل العقوبات الغربية واليأس من الشرطي الأمريكي .
ما تأثير ذلك على الجزائر؟
في رأيي أن في المسألة بعدا أمنيا استراتيجيا من ثلاث محركات
١- أن الموقف الرسمي للمؤسسة العسكرية بدعم روسيا اقتصاديا بصفقات السلاح ، ودبلوماسيا بالامتناع عن التصويت ضدها في غزو أوكرانيا، وإجراءات الانضمام للبريكس.. كل ذلك سيحرك جماعات الضغط الغربية لكبح هذا المسار بخلخلة التوازن بين قيادات الجيش الذي تعتبر قيادته هي الحاكم الفعلي في البلاد، وبالتالي يفقد عامل الاستقرار الذي يخلق الثقة عند الحلفاء و الشركاء.
٣- قلت سابقا إن هناك طوقا أمنيا جديدا يتشكل في الشرق الأوسط بقيادة الصين لإحداث اختراق أمني واقتصادي توج بسلسلة من الاتفاقات الثتائية ابتداء مع كل من الجزائر السعودية ومصر، وبذلك تكون استكملت مثلثا جيواستراتيجيا مهما كان تقليديا محسوبا على المحور الغربي، ثم استثمرت هذا المثلث كمنصة لرعاية تقارب سعودي إيراني بثقل صيني كبير لكنه يرتكز في هذا أساسا على ركائز المثلث الثلاث ومنها الجزائر، وهنا مربط الفرس فالجزائر تعتبر الحلقة الأضعف فيه من حيث استقرار النظام .
مع انحسار المد الفرنسي في الشمال الإفريقي لم يبق لفرنسا سوى سيناريوهات التعفين، لتظهر أنها الأقدر على صناعة توازنات الزمرة الحاكمة في الجزائر وإدارتها ، لذلك أرجح أن الساحة الجزائرية ستتوجه لمزيد من التعفين (صراع أجنحة، إقالات تسريبات، اعتقالات وربما تصفيات..)
وسيكثر ذلك وعلى أكثر من منصة (إعلامية قضائية أمنية ..)
وارى أن سيناريو التعفين سيكون رتوجيه دقيق من جماعات الضغط الغربية ومنها الأمن الفرنسي لكسب أوراق ضغط أمام مفاوضات ماكرون مع كل من الصين للضغط على روسيا من جهة ومع إيران للضغط عليها في سلوكها النووي، وبالتالي تتدارك فرنسا بملف الجيش الجزائري ومحاولة التأثير في توجهاته، مقابل ما خسرته من نفوذ أمام الصين في التسوية الأخيرة بين إيران والسعودية،
خاصة وأن إنقاذ لبنان من الانهيار أصبح مهمة شبه مستحيلة لفرنسا، الراعية التاريخية لمنظومة الحكم فيه.
ومعنى ذلك أن فرنسا على أعتاب أن تفقد ملفا مفتاحيا في تشكيل جغرافيا الشرق الأوسط ، كما خسرت مفاتيح جغرافية الساحل الأفريقي.
الخلاصة أن توتير الزمرة الحاكمة في الجزائر رسالة ضغط لتسويات دولية وإقليمية قائمة،
لكن ثقل الصين الآن خاصة بعد رفع تعاونها مع روسيا إلى شراكة وإعلان تشكيل قطب اقتصادي وامني جديد، سيحتاج إلى مستوى أعلى من التوتير، ولا تستطيعه فرنسا، فوزنها ضعيف خاصة الآن، لذلك أرجح أن الأيام القادمة ستتدخل أجهزة أمنية أكبر وأقدر على تعفين الوضع في الجزائر،
وهذا يعني أن البلد أصبحت ضعيفة داخليا وخارجيا
فداخليا فشلت الرئاسة في ترتيب البيت الداخلي بإجهاض مبادرة لم الشمل
وخارجيا أصبحت مجال تنافس دولي أمني خطير، لا تستطيع إدارته.
وإذا أردنا مثالا نفهم منه الأثر المباشر خارجيا لمثل هذا التعفين بالتسريبات ، فلا أحد سيأبه لعرض تبون أن تكون الجزائر وسيطا في الأزمة الأوكرانية، ومهزلة التعيينات والإقالات متسلسلة لا تكاد تنتهي
أما الأثر الداخلي المباشر فسيرسخ قناعة الإنسان الجزائري أن إجهاض الحراك ترتب عنه غياب العقل الاستراتيجي للأمة الجزائرية ، الذي يشق طريقا آمنا في خضم هذه التحولات الدولية
- رضا بودراع يكتب: حرب عالمية كشفها لنا القرآن العظيم - الثلاثاء _6 _يونيو _2023AH 6-6-2023AD
- رضا بودراع يكتب: المعضلة الإستراتيجية القادمة لـ«تركيا»! - الخميس _1 _يونيو _2023AH 1-6-2023AD
- رضا بودراع يكتب: صناعة أدوات القوة.. اليأس!؟ - السبت _27 _مايو _2023AH 27-5-2023AD