توقّفتُ عن التدخين، ثم عن شرب الخمر بعد ذلك، وكان قرارا ساذجا في نظر المدخّنين والمدمنين. لكنّه غيّر حياتي رأسا على عقب. من الصّعب جدّا أن تقنع مدخّنا أو مدمنا ما بأنّ ما تفعله صواب.
لأن المدمن بداخله مركّب نقص لا يداويه تجاهل أو نسيان. وفي مثل حالتي، فإن الأمر أكبر من مجرّد قرار يمكن تجاهله.
كان أخطر شيء على الجماعة أن أغيّر طريقي، ومن اليمين إلى اليسار. وهذا يعني بالنسبة إليهم أنّني قد تزحزحتُ عن الصّف، والخروج من الصّف يعني تمرّد، والتمرّد يؤدّي إلى الخِذلان.
خطفتُ انتباه أحد الأعوان المقرّبين إليّ، بينما كنتُ أصلّي، منزويّا في مكتب زميل من الزّملاء المهمّشين، والسبب في ذلك انخراطه السيّاسي «الإسلامويّ»، فأمسى شخصا غير مرغوب فيه.
عبثا حاول جلب انتباهي ذاك العون المحبوب المقرّب إليّ، المحسوب عليّ؛ لأنّني كنتُ سببا في توظيفه ذات يوم. وحين يئس منّي قال لي بصريح العبارة: «ستدفع الثّمن باهظا يا رشيد».
لم ألتفت إلى تلك العبارة السّخيفة، ولا إلى تلك الهمزات واللّمزات التي كانت تلازمني حين أكون في رفقة السّوء، ظِلّ ظِلّيل، لا يفارقُنّني في اللّيل ولا في النّهار؛
فحين تعود السّكينة إلى القلوب وتهدأ الأنفس والأبدان، عندها يَؤُّنُ للتّائهين أمثالي، الضّائعين في الغابات والأدغال، البحث عن زجاجة خمر أخيرة لإكمال السّهرة. ثمّ فجأة ارتأى لي أن أتخلّص منهم بهذه العُجالة:
«رويدك يا سي رشيد فلابُدّ وأنّك تسخَرُ منّا!».
قالها لي أحدهم حين رآني أحمل سجّادة الصّلاة، وكأنّي به أحمل ذنبا لايُغتفر. وحين تأكّد لبعض الوجوه المكشّرة أنّني جادٌّ فيما أزعم وأعتقد، أخذتْ تلك الوجوه التي كنتُ قد ألفتُها تتوارى لتختفي عنّي.
وذات يوم كتب لي صديق رسالة ختمها بمقولة: «Rira bien qui rira le dernier»
كيف وصلوا إليه ونهض إليّ يهدّدني!؟
لستُ أدري؟!.
لم أكن أتوقّع تلك اللّهجة القاسية من هذا الشّخص بالذّات؛ تأكّد لي من فحوى الرّسالة أنّه يهدّدني، ولم يعد بإمكاني سوى الإذعان.
تعاملتُ مع صاحب الرّسالة بحذر شديد وبنوع من الذّكاء، وتلك مهنة ورثتها من الفاسدين.
لكن صديقي لا يريد التخلّي عنّي، فكان يتوعّدني بين الفينة والأخرى. وكنتُ كلّما حاولتُ التملّص منه،
وصرف نظره عن الموضوع، يشتدّ ضراوة. فتيقّنت من إنّهم استطاعوا استمالته، وأصبحتُ كلّما رأيته استحضر قول الشّاعر المتنبّي:
وَزَائِرَتي كَأنّ بهَا حَيَاءً ::: فَلَيسَ تَزُورُ إلاّ في الظّلامِ
بَذَلْتُ لهَا المَطَارِفَ وَالحَشَايَا ::: فَعَافَتْهَا وَبَاتَتْ في عِظامي
لم يكن لدى صاحبي هذا ما يخسره، فقد كان عازبا ومشرّدا وعاقّا لوالديه، وكانت بداية صلتي به ثلاّجة اشتراها منّي.
فاللّعنة على يوم عرفته فيه وعلى الثلاّجة التي ابتاعها منّي.
- رشيد مصباح يكتب: رسالة من داخل السّجن - الخميس _23 _فبراير _2023AH 23-2-2023AD
- رشيد مصباح يكتب: خطورة الجهل على سلامة وصحّة الشّعوب - الثلاثاء _17 _يناير _2023AH 17-1-2023AD
- رشيد مصباح يكتب: كفي نحيبا.. فالفقر ليس عيبا - الأحد _1 _يناير _2023AH 1-1-2023AD