كتب إليّ أحد أهل العلم يقول: لقد فهم بعض الناس من مقالك (أنواع القراءات) وجود قراءات غير القراءات العشرة المتواترة يجوز القراءة بها.. فهل ترى ذلك فعلا؟..
فقلت: لقد كان المقال المشار إليه بيانا وجوابا على سؤال المستفهم بشأن ما يورده الإمام البيضاوي رحمه الله في تفسيره من قراءات ليست من القراءات العشرة المتواترة..
يقول عنها البيضاوي: (وقُرئ بكذا) ويذكر الوجه الذي ليس في القراءات العشرة المتواترة..
فكلامي توجيه لفعل الإمام البيضاوي رحمه الله وبيان لجواز ذلك في التفسير..
وأما أنا فعلى ما عليه جماهير العلماء سلفا وخلفا من قبول القراءات العشرة المتواترة فقط، ولا أجيز غيرها، ولا أقول بقول من خالفوا ذلك..
وهو عين ما كتبته منذ أكثر من ٣٠ عاما وقد نشر في كتابي بداية الطريق وما عدا ذلك من اهتمامي بغير القراءات العشرة المتواترة فهو شيء خاص بي وليس للنشر، ولا أحدّث به ولا أناقشه إلا مع أهل العلم المتخصصين في أضيق نطاق..
ومن أشهر من تكلّمت معهم في القراءات الأخرى غير المتواترة الشيخ رزق خليل حبة رحمه الله،
والشيخ جلال حمام رحمه الله، والشيخ أحمد المعصراوي، والدكتور سامي عبد الفتّاح هلال العميد السابق لكلية القرآن بطنطا..
وقد تلقت الأمة كلها قراءة هؤلاء الأئمة العشرة بالقبول جيلاً بعد جيل،
فهي القراءات التي تحققت فيها شروط التواتر وموافقة الرسم العثماني ووجوه اللغة العربية،
وأجمع العلماء على ذلك، وأن ما عداها من القراءات لا يصل إلى رتبتها، وإليك بيان ذلك:
👈 قال الشيخ عبد الفتاح القاضي رحمه الله:
ذكر علماء القراءات قاعدة تُعرف بها القراءات المقبولة وتُميز عن غيرها من القراءات الشاذة المردودة،
وهذه القاعدة هي: كل قراءة وافقت اللغة العربية ووافقت رسم أحد المصاحف العثمانية وثبتت بطريق التواتر، نقول: كل قراءة أجمعت فيها الأركان الثلاثة، موافقة اللغة،
وموافقة أحد المصاحف وثبوتها بطريق التواتر، هي القراءة التي يجب قبولها ولا يحل جحدها وإنكارها،
وهي من جملة الأحرف السبعة التي نزل بها القرآن الكريم، ومتى لم تتحقق هذه الأركان كلها أو بعضها في قراءة فهي قراءة شاذة مردودة.
وينبغي أن يُعلم أن أهم هذه الأركان هو الركن الثالث، وأما الركنان الأولان فهما لازمان له،
إذ أنه متى تحقّق تواتر القراءة لزم أن تكون موافقة للغة العرب ولأحد المصاحف العثمانية.
فالعمدة هو التواتر، وهو الجزء الأهم في الحد، فلا تتصور ماهية القرآن إلا به،
وهي نقل جماعة يمتنع تواطؤهم على الكذب عن جماعة كذلك من أول السَّند إلى منتهاه، إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم،
وقد جنح الشيخ مكي بن أبي طالب وتبعه المحقق ابن الجزري إلى الاكتفاء بصحة السند وجعلاه مكان التواتر.
👈 وقال صاحب غيث النفع:
وهذا قول محدث لا يعول عليه، ويؤدي إلى تسوية غير القرآن بالقرآن. ثم قال:
ومذهب الأصوليين وفقهاء المذاهب الأربعة والمحدّثين والقراء أن التواتر شرط في صحة القراءة،
ولا تثبت بالسند الصحيح غير المتواتر، ووافقت العربية ورسم المصاحف العثمانية.
👈 وقال النويري في شرح الطيبة:
وهذا قول حادث مخالف لإجماع الفقهاء والمحِّدثين وغيرهم لأن القرآن عند الجمهور من أئمة المذاهب الأربعة منهم الغزالي،
وصدر الشريعة وموافقة الدين المقدس، وغيرهم هو ما نقل بين دفتى المصحف نقلاً متواتراً.
ولذلك عرفوا القرآن بأنه اللفظ العربي المنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم، المنقول إلينا متواتراً، المتعبّد بتلاوته، المتحدِّي بأقصر سورة من سُوره.
👈 وقال الإمام النويري:
وعلى هذا لابد من حصول التواتر عند أئمة المذاهب الأربعة، لم يخالف أحد منهم مطلقاً فيما علمت بعد الفحص الزائد،
وصرّح به جماعة لا يحصَون منهم بن عبد البرّ وابن عطية وابن تيمية والنووي والأذرعي والأسنوي والزركشي والسُّبكي وابن الحاجب وغيرهم،
وأما القراء فقد أجمعوا على ذلك أول الزمان وكذلك آخره، ولم يخالف من المتأخرين إلا مكي وتبعه بعض المتأخرين.
👈 ومن كلام علماء القراءة الدال على اشتراط التواتر، ما صرّح به الإمام الجعبري في شرح الشاطبية حيث يقول:
ضابط كل قراءة تواتر نقلها ووافقت العربية مطلقاً ورسم المصحف ولو تقديرا فهي من الأحرف السبعة وما لم يجتمع فيه ذلك فشاذ.
👈 والذي توفّرت فيه الأركان الثلاثة المذكورة إنما هي القراءات العشر،
قال في غيث النفع: الشاذ ما ليس بمتواتر، وكل ما زاد الآن على القراءات العشر فهو غير متواتر.
👈 وقال النويري:
أجمع الأصوليون والفقهاء على أنه لم يتواتر شيء مما زاد على القراءات العشر، وكذلك أجمع عليه القراء أيضاً، إلا من لا يعتدّ بخلافه.
👈 وقال ابن الجزري في منجد المقرئين:
والذي جمع في زماننا الأركان الثلاثة هو قراءة الأئمة العشرة التي أجمع الناس على تلقيها بالقبول.
👈 قال أيضاً في الكتاب المذكور: وقول من قال: إن القراءات المتواترة لا حدّ لها، إن أراد في زماننا فغير صحيح،
إذ لا يوجد اليوم قراءة متواترة وراء العشرة، وإن أراد في الصدر الأول فيحتمل إن شاء الله.
ويؤخذ من هذه النقول أن القرآن لا يثبت إلا بطريق التواتر وأن التواتر لم يتحقق إلا في القراءات العشر،
وعلى هذا فكل قراءة وراء العشرة لا يحكم بقرآنيتها، بل هي قراءة شاذة لا يجوز القراءة بها لا في الصلاة ولا خارجها.
👈 وقال الإمام النووي رحمه الله:
ولا تجوز القراءة في الصلاة ولا في غيرها بالقراءات الشاذة، وليست قرآناً، لأن القرآن لا يثبت إلا بالتواتر،
وأما الشاذة فليست متواترة، فلو خالف وقرأ بالشاذ أنكر عليه، سواء قرأ بها في الصلاة أو غيرها،
هذا هو الصواب الذي لا معدل عنه، ومن قال غيره فهو غالط أو جاهل.
👈 وقد نقل ابن عبد البر إجماع المسلمين على أنه لا تجوز القراءة بالشاذ وأنه لا يصلِّي خلف من صلّى بها.
👈 وقال ابن السُّبكي في جمع الجوامع: وتحرم القراءة بالشاذ، والصحيح أنه ما وراء العشرة. أهـ ومثل ذلك عن ابن الحاجب رحمه الله.
👈 وقال ابن الصلاح:
وهو ممنوع من القراءة بما زاد على العشر منع تحريم لا منع كراهة في الصلاة وخارجها، ويجب على كل أحد إنكاره، ومن أصرّ عليه وجب منعه وتأثيمه وتعزيره بالحبس وغيره، وعلى المتمكن من ذلك ألاّ يهمله.
👈 وقد استفتي الإمام ابن حجر العسقلاني عن حكم القراءة بالشاذ فقال: تحرم القراءة بالشاذ في الصلاة أشد، ولا نعرف خلافاً بين أئمة الشافعية في تفسيره أنه ما زاد على الشعر، بل منهم من ضيّف فقال ما زاد على السَّبع.
👈 وقال السَّخاوي:
لا تجوز القراءة بشيء مما خرج عن الإجماع ولو كان موافقاً للعربية وخط المصحف، ولو نقلته الثقات لأنه جاء من طريق الآحاد، وتلك الطريق لا يثبت بها القرآن.
👈 ونقل النويري عن شمس الدين الديري أنه قال:
لا يجوز اعتقاد القرآنية في الشواذ التي لم تنقل بالشهرة والتواتر، ولا يجوز إيهام السامعين قرآنيتها، ولا سيما إذا كان في الصلاة.
👈 وقال الشيخ عبد الفتاح القاضي رحمه الله: ..
القرآن لا يثبت إلا بطريق التواتر ولا يكتفي في ثبوته بصحة السَّند،
وأن القول بالاكتفاء بالسند الصحيح غير المتواتر قول حادث مخالف لإجماع الأصوليين والفقهاء والمحدِّثين وعلماء القراءات سلفهم وخلفهم،
وعلى أن التواتر منحصر في القراءات العشر التي نقرؤها الآن بل قيل في السبع فقط، وأن ما وراءها من القراءات فهو قراءات شاذة،
وإن وافقت العربية والرسم ونقلت عن الثقات واشتهرت واستفاضت، فإن ذلك كله لا يخرجها عن شذوذها، فلا تسمى قرآناً،
وتحرم القراءة بها في الصلاة، بل يحرم على المسلم اعتقاد قرآنيتها وإيهام السامعين أنها من القرآن،
ويجب على كل مسلم يحترم القرآن ويؤمن به أن ينكر على كل من يقرأ بهذه القراءات ويمنعه من القراءة بها منعاً باتاً،
ويعزره بالحبس وغيره إن استطاع إلى ذلك سبيلاً.
هذا رأي جماهير العلماء من الأصوليين والفقراء والمحدّثين وعامة علماء القراءات،
ولم يشذ عن هذا الرأي إلا أفراد قلائل لا يحُفل بهم، ولا يلتفت لآرائهم منهم مكي من بن أبي طالب والشيخ ابن الجزري،
ذهبا إلى الاكتفاء في ثبوت القراءة بصحة السند وإن لم تكن متواترة.
فالقراءة التي نقلها الثقات بطريق الآحاد ووافقت الرسم والعربية فهي قراءة مقبولة عندهما وتصحّ القراءة بها في الصلاة وخارجها،
ولكن بشرط ن تظفر هذه القراءة بالشهرة والاستفاضة والتلَّقي بالقبول،
أما القراءة التي نقلها غير الثقات– ولو وافقت العربية والرسم– أو نقلها الثقات وخالفت الرسم أو العربية،
أو نقلها الثقات ووافقت الرسم والعربية ولكن لم تبلغ حد الشهرة والاستفاضة فهي بأقسامها الثلاثة قراءة شاذة مردودة.
ويقول:
وبناء على هذا نستطيع أن نحكم في اطمئنان وتَثبّت على القراءة التي انفرد بنقله المشايخ الأربعة:
ابن محيصن ويحيى اليزيدي والحسن البصري والأعمش أو أحد هؤلاء،
أو راويٍ من رواتهم بأنها قراءة شاذة مردودة لا تسمى قرآناً،
ويحرم اعتقاد قرآنتيها، وإيهام السامعين أنها من القرآن، وتحرم القراءة بها مطلقاً، ويعزر من يقرؤها،
وهذا كله بإجماع العلماء حتى ابن الجزري ومكي بن أبي طالب.
أما عند جماهير العلماء، فلأن هذه القراءة لم تنقَل إلينا بطريق التواتر، إذ التواتر منحصر في القراءات العشر، كما تقدم، وأما عند مكي وابن الجزري فلأن بعضها مخالف مواد المصحف..
والله أعلم..
- ربيع عبد الرؤوف الزواوي يكتب: الموت - الأحد _15 _مايو _2022AH 15-5-2022AD
- ربيع عبد الرؤوف الزواوي يكتب: ممن تتزوج العاقلة؟! - الثلاثاء _10 _مايو _2022AH 10-5-2022AD
- ربيع عبد الرؤوف الزواوي يكتب: إذا ركعت.. وإذا سجدت.. - الجمعة _29 _أبريل _2022AH 29-4-2022AD