إنَّ عالمنا اليوم يقوم فيه صراع ضخم بين المذهب الفردي، والمذهب الجماعي.
فالرأسمالية تقوم على تقديس الفردية، واعتبار الفرد هو المحور الأساسي، فهي تُدلِّله بإعطاء الحقوق الكثيرة، التي تكاد تكون مطلقة، فله حرية التملك، وحرية العمل، وحرية القول، وحرية التصرف، وحرية التمتع،
ولو أدت هذه الحريات إلى إضرار نفسه، وإضرار غيره، مادام يستعمل حقه في (الحرية الشخصية)،
فهو يتملك المال بالاحتكار والحيل والربا، وينفقه في اللهو والخمر والفجور، ويمسكه عن الفقراء والمساكين والمُعْوِزين، ولا سلطان لأحد عليه،
لأنه (حرٌّ فيما يملك)، أشبه بما حكى القرآن عن قوم شعيب الذين أنكروا عليه أن ينهاهم عن تطفيف الكيل والميزان،
وأن يبخسوا الناس أشياءهم، وأن يعثوا في الأرض مفسدين:
{قَالُوا يَا شُعَيْبُ أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ}
[هود:87]،
فهم يرون أنَّ المالك صاحب الحق المطلق في ماله، يتصرَّف فيه كيف يشاء، ولا يطالب بشيء.
والمذاهب الاشتراكية -وبخاصة المتطرفة منها كالماركسية- تقوم على الحطِّ من قيمة الفرد، والتقليل من حقوقه، والإكثار من واجباته، واعتبار المجتمع هو الغاية، وهو الأصل.
وما الأفراد إلا أجزاء أو تروس صغيرة في تلك (الآلة) الجبارة، التي هي المجتمع، والمجتمع في الحقيقة هو الدولة، والدولة في الحقيقة هي الحزب الحاكم،
وإن شئت قلت: هي اللجنة العليا للحزب، وربما تركزت في النهاية – في حقيقة الأمر – في شخص واحد، هو زعيم الحزب فحسب، أو هو الدكتاتور!!
إن الفرد ليس له حقّ التملك إلا في بعض الأمتعة، والمنقولات، وليس له حق المعارضة، ولا حق التوجيه لسياسة بلده وأمته، وإذا حدَّثتْه نفسه بالنقد العلني أو الخفيّ، فإن السجون والمنافي وحبال المشانق له بالمرصاد!
موقف الإسلام الفريد بين الطرفين:
ذلك هو شأن فلسفات البشر، ومذاهب البشر، والديانات التي حرَّفها البشر،
وموقفها من الفردية والجماعية، فماذا كان موقف الإسلام؟
لقد كان موقفه فريدًا حقًّا، لم يَمِل مع هؤلاء ولا هؤلاء، ولم يتطرف إلى اليمين ولا إلى اليسار.
إن شارع هذا الإسلام هو خالق هذا الإنسان، فمن المحال أن يشرع هذا الخالق من الأحكام والنظُم ما يعَطِّل فطرة الإنسان أو يصادمها.
وقد خلقه سبحانه على طبيعة مزدوجة: فردية واجتماعية في آن واحد. فالفردية جزء أصيل في كيانه،
ولهذا يحب ذاته، ويميل إلى إثباتها وإبرازها، ويرغب في الاستقلال بشؤونه الخاصة.
ومع هذا نرى فيه نزعة فطرية إلى الاجتماع بغيره، ولهذا عدَّ السجن الانفرادي عقوبة قاسية للإنسان،
ولو كان يتمتَّع داخله بما لذَّ وطاب من الطعام والشراب. ولهذا قال الحكماء من قديم:
الإنسان مدني بطبعه، وقال فلاسفة الاجتماع المحدثون: الإنسان حيوان اجتماعي.
والنظام الصالح هو الذي يراعي هذين الجانبين في حياة البشر: الفردية والجماعية، ولا يطغي أحدهما على الآخر.
فلا عجب أن جاء الإسلام -وهو دين الفطرة- نظامًا وسطًا عدلاً،
لا يجور على الفرد لحساب المجتمع، ولا يحيف على المجتمع من أجل الفرد، لا يدلِّل الفرد بكثرة الحقوق التي تمنح له،
ولا يرهقه بكثرة الواجبات التي تلقى عليه، وإنما يكلِّفه من الواجبات في حدود وُسْعه، دون حَرَج ولا إعنات،
ويقرِّر له من الحقوق ما يكافئ واجباته، ويلبِّي حاجته، ويحفظ كرامته، ويصون إنسانيته، ولا يجور على غيره…
د. يوسف القرضاوي، رحمه الله
من كتاب: فقه الوسطيَّة والتجديد
- د. يوسف القرضاوي يكتب: التوازن بين الفردية والجماعية - الجمعة _24 _فبراير _2023AH 24-2-2023AD
- د. يوسف القرضاوي يكتب: ضرورة النظرة المستقبلية في عصرنا - السبت _30 _يوليو _2022AH 30-7-2022AD
- يوسف القرضاوي يكتب: يأسرني في «الشيخ العودة» حماسه - الأحد _6 _مارس _2022AH 6-3-2022AD