أتذكر بتدبر ما قيل قديما من أمثال العرب : «نصف الناس أعداء لمن عدل»
أو قول الشاعر :
إنَّ نِصفَ الناسِ أعداءٌ لمنْ *** وَلِيَ الأحكامَ هذا إنْ عَدَلْ
نعم يحدث هذا مع الأسف فيرى الناس العدل ويعرفونه لكنهم لا يرغبون في إقامته
يظنون أن في إقامته إضرارا بهم.. فيرفضونه ويقفون ضده بل يفلسف بعضهم الأمر فيتوهمون أن إقامة العدل في الناس سيؤذيهم كلهم ولن تستقيم معه حياتهم
نفس منطق من يقول أن الشعوب غير مؤهلة للحكم بالديمقراطية
وأرى أن هذا ينطبق على حال كثيرين ممن لا يعجبهم -أو لا يفهمون معنى- أن نعيش كراما وأن يطبق فينا العدل ولو كان شاقا أو أن نشيع فينا قولة الحق وفعله وإن كان مرا
يستثقلون تبعة العدل ويتصورون مشقة التكليف دون أن يتكبد أحدهم عناء تصور الوجه الصحيح الجميل للعدل والإنصاف والكرامة والحق.
يكون الإنسان هنا عدوَّ نفسه.. حين يفضل متاعا رخيصا وعيشة مترعة في الغي والفساد على وجه الحقيقة الرائع.. مع إدعاء بأنه ليس بالإمكان أفضل مما استقرت عليه الأمور وكان.
والغريب أن الواحد من هؤلاء يتخيل أنه الأعقل والأرشد والأفهم.. إنه يعيي الأمور والتحديات ويدرك المشكلات على حقيقتها أما غيره -نحن بالطبع- فنعيش في عالم وهمي مثالي.؟
خلاصة الكلام..
نحن لا نستحق الأفضل ولا نقدر عليه ولا لدينا إمكانية تنفيذه
قد يقول أنه طموح بلا سبب.. أو إنه يعتمد على تصورات فاشلة وأحلام عسيرة التنفيذ.. قد يجيب أي إجابة صوتية تسمعها بأي لفظ لكن مفادها واحد هذه صورة مثالية لا نقدر على الوصول إليها، لقد مضى زمن المثالية.. أنت لا تدرك حجم الضغوط ولا تتصور الواقع ومتغيراته.
المثير في الأمر
أن كل الأعمال والمشاريع والاختراعات الإنسانية الفذة بدت للبعض غريبة وعصية على التصور والتنفيذ
المواصلات بدأ من استئناس الحيوان حتى ركوب السيارات والطائرات والصواريخ
وسائل الاتصال بدأ من الحمام الزاجل وحتى الأقمار الصناعية والاتصال عبر الشبكات
كل الاختراعات وكل الأفكار الإنسانية وكل نظم الحكم ونظم التجارة
حتى الأديان وما جاء به الرسل من هداية بالرغم من الآيات التي معهم وجدت عنتا ورفضا
كل شيئ جديد يجد استغرابا وربما استهجانا
قال تعالى (وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله)
بنفس المنطق تم التعامل مع الثورة من بدايتها.. كثيرا ما سمعنا أنه لا فائدة من كل هذا.. لا أخفي أن نفس الانهزام أصاب رجالا ممن رأينا منهم قدوات ومواقف من مفكرين ومثقفين ودعاة بصورة أو بأخرى
رأينا جميعا الواقع المهترئ والفساد المستشري داخلا والظلم الطاغي خارجا.. فيئسنا
وحق لنا ذلك
لقد اعتدنا على ثقافة الاستضعاف واستسغنا طعم المصاعب وتعودنا على تلقي المصائب
فهل بعد هذا يكون لنا قيام؟
صعب علينا توقع الحل وقد نسينا -أو بعضنا- عاملا مهما بل هو أهم العوامل على الإطلاق.. عامل أن الله تعالى غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون
الله تعالى يريد أن يمن على المستضعفين في الأرض ويجعلهم أئمة ويجعلهم الوارثين.. الله تعالى هو الحكيم الذي يضع الأمور في نصابها وتجري في ملكه وفقا لحكمته وإرادته ومشيئته.. ومهما حاول الإنسان أن يتململ وأن يغير المسار الإنساني فإنه يفشل
لأن الكون ليس خططا وتهيئة للأسباب فقط وإنما هذا الكون ملك لربه تعالى
تكوين معقد قد يكون للقسوة والظلم والضلال فيه جولة.. لكنها بالتأكيد ليست آخر جولة
نعم هو ترك لنا حرية الاختيار في أمورنا وتصوراتنا وعقيدتنا.. لكن هذا الاختيار شخصيا وليس جمعيا
فلا نملك أن نفرض رؤانا قسرا على ربنا تعالى وعلى تصرفه في ملكه
وهذا من فضل الله تعالى علينا وإلا لوقعنا فريسة فرض الأقوياء وأصحاب السلطان
تلك إرادته وذلك فعله في خلقه
فعل الله تعالى ذلك مرارا .. أهدى الناس الحق وساقهم إليه سوقا
يمن الله تعالى على الناس فيخلصهم من فرعون ..بعد كل كبر واستكبار وظلم
يكسر الله تعالى كسرى ويمزق ملكه ..ويقصر قيصر
منة منه وفضلا وتكرما
يعطينا وينعم علينا.. وعلى المستضعفين من خلقه لما يعجزنا الأمر وتدلهم الأمور ويشق علينا الحل.. فإذا به يأتينا منة وفضلا ورحمة من إله رحيم بخلقه
وعندما جاءت الثورة.. بزغت كفجر بعد طول ظلام.. جاءت فانقلبت الأمور وتحولت الدفة وتغيرت المعطيات
هناك من تربص بها وتخوف منها -حتى من المخلصين- وهناك من تحول مائة وثمانين درجة من النقيض للنقيض
وهناك من قرر من أول يوم أن يعاديها ما دام به نفس ..فعملوا ضد مصلحة أنفسهم
لم يتفكروا في النعمة.. لم يراجعوا أنفسهم ..لم يشاهدوا لطف الله تعالى ويدركوا موضع الامتحان ويفهموا أن القواعد تتغير.. ولم يطمعوا في عفو الشعب الطيب
ولا يزال هؤلاء في كل مرحلة من مراحل الثورة يبدأون مرحلة جديدة
لم يقفوا مرة ليراجعوا أنفسهم أو ينظروا في أحوالهم ..
إن الثورة تتقدم مهما قابلتها العوائق
**
هناك دائما صورة مثالية -أو ربما صورا مثالية- وصورا واقعية في كل الأحوال البشرية.. وأقول أيضا أن ذلك ينطبق حتى على الاختراعات والمناهج والتصورات
لكن دعنا نتناول صورة الحاكم في إطار موقف تاريخي ونفهمه في ضوء ما تم في بلدنا من تفشيل الرئيس الراحل الدكتور مرسي والتربص به.
وما يسوء في هذا أن بعض المخلصين من أصحاب الأفكار الوطنية كان يتبنى أحد تلك الأنماط.. ربما غيرة وربما رغبة في دور لم ينله
ولم يفطن هؤلاء أن أمور الحكم مغارم وليست مغانم.. أبعدها رسول الله صلى الله عليه وسلم عمن لم يجده أهلا لها من أصحابه فقال له: إنك ضعيف وإنها أمانة وإنها يوم القيامة خزي وندامة.. إلا من أخذها بحقها وأدى الذي عليه فيها
ونقول إننا في التاريخ الإسلامي لا نجد أفضل مثالية من صورة الحاكم التي رسمها الخلفاء الراشدون، فقد كانوا أكثر الأمة تواضعا وأصدقهم لهجة وأعظمهم عطاء وبذلا
دعني ألتقط من التاريخ مثالا لما أريد أن أدلل عليه وهو حالة التقاء عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه ببعض ولاته ممن كانوا على الأمصار أثناء رحلته الشهيرة لبيت المقدس وللجابية في الشام
معروف ما كان من شأنه بأنه لم يكن له موكبا بل ركب الناقة ولم يركب البراذين على عادة الملوك وكان بثيابه من الرقع ما بها ولما خاض مخاضة شمر لها ثيابه ونزل عن دابته فقال له مرافقه: ما أحب أن يراك الناس على هذا فقال قولته المستعلية على مظاهر الحياة : إنا كنا أذل قوم فأعزنا الله تعالى بالإسلام ومهما ابتغينا العز في غيره أذلنا الله تعالى.
على المستوى الشخصي كان عمر رضي الله عنه ينهى الناس عن التوسع في أمور الدنيا وربما عاقبهم على ذلك فقد دخل معاوية على عمر، وعليه حلة خضراء. فنظر إليها الصحابة. قال: فوثب إليه عمر بالدرة، وجعل يقول: الله الله يا أمير المؤمنين، فيم فيم؟ فلم يكلمه حتى رجع. فقالوا : لم ضربته وما في قومك مثله؟ قال: ما رأيت وما بلغني إلا خيرا، ولكنه رأيته، وأشار بيده (أي رآه وقد علا شأنه)، فأحببت أن أضع منه. (أي يعلمه الزهد والتواضع)
كان هذا على المستوى الشخصي لكنه فيما يتعلق بساسة الأمور وإدارة الدولة نجد موقف عمر يبدو أكثر تفهما للأمور ففي نفس الرحلة للشام حدث موقف مختلف يرسم صورة أخرى وينم ما كان لدى الصحابة من مواقف تدل على سعة إدراك وحسن سياسة حيث لما قدم عمر الشام، تلقاه معاوية في موكب عظيم وهيئة ، فلما دنا منه، قال: أنت صاحب الموكب العظيم؟
قال: نعم.
قال: مع ما بلغني عنك من طول وقوف ذوي الحاجات ببابك.
قال: نعم.
قال: ولم تفعل ذلك؟
قال: نحن بأرض العدو بها كثير، فيجب أن نظهر من عز السلطان ما يرهبهم فإن نهيتني انتهيت،
قال: يا معاوية! ما أسألك عن شيء إلا تركتني في مثل رواجب الضرس. لئن كان ما قلت حقا، إنه لرأي أريب، وإن كان باطلا، فإنه لخدعة أديب.
قال: فمرني. قال: لا آمرك ولا أنهاك.
فقيل: له بعد ذلك: يا أمير المؤمنين! ما أحسن ما صدر عما أوردته (أي أنه أحسن الاعتذار بين يديك عما يفعله من نظام الحكم).
قال: لحسن مصادره وموارده جشمناه ما جشمناه. أي أنه وضعه في هذا الموضع لقدرته على الأداء ولم ينهه عن استخدام ما ينفعه مما أباحه الله تعالى من الأدوات والنظم والملابس والمراكب وإن اختلف عنه في الزهد وتجشم القدوة المثالية
إنها إذن صورة مثالية وصورة أخرى مثالية من نوع آخر لأنها تعرف كيف تتعامل مع الأمور ومع الناس ومع الشخصيات
لا يعيب الأمور أبدا أن يتم التعامل مع الناس بضبط الأدوار ولا بتقسيم المهام فليس عزل الفاسدين مثلا هو انتقام بل هو تقدير للأمور ولا ينافي الزهد المطلوب ولا المسامحة المندوب إليها لأن التعامل مع الناس لا يمكن أن يكون وفقا لنمط واحد
ولا يعد هذا مبررا لفساد ولا لظلم.. لكن هي دعوة لاستخدام الأسلوب الأمثل وفقا لحقائق الشرع والقانون.
- د. ياسر عبد التواب يكتب: بين الوقف والتنمية والإعلام - السبت _11 _فبراير _2023AH 11-2-2023AD
- د. ياسر عبد التواب يكتب: بين الحاكم المثالي والأمثل - السبت _4 _فبراير _2023AH 4-2-2023AD
- د. ياسر عبد التواب يكتب: واقعية الداعية ومراعاة الضعف والضرورات - الثلاثاء _3 _يناير _2023AH 3-1-2023AD