منذ استقلال السودان قانونيا في مطلع عام 1956، تولى السلطة السياسية فيها عسكريون لمدة تصل إلى حوالي 58 سنة(أي بنسبة 87 % من الفترة كلها)، وتولى خلال الفترات الانتقالية بين العسكر مجالس سيادة كانت كلها تقريبا قصيرة المدة إلى حد بعيد.
وكانت إسرائيل تدرك تماما أهمية السودان كدولة تتيح المجال لنهش مصر، فالفكر الاستراتيجي الإسرائيلي قائم على العمل على أن تبقى مصر وبشكل دائم دولة ضعيفة وفقيرة ويحيطها جوار مضطرب، إذ طالما كانت مصر ضعيفة فان اي نظام سياسي جديد مهما كان معاد لإسرائيل لن يتمكن من التأثير على إسرائيل بحكم ضعف دولته، بينما إذا تركت مصر لتقوى وتتطور فان أي نظام سياسي معادي لإسرائيل سيخلق مشكلة كبرى لإسرائيل بخاصة مع المكانة الشرق أوسطية لمصر، وتمثل السودان نقطة ارتكاز مهمة لتحقيق هذه الإستراتيجية، وهو ما يتجلى في المشاهد التالية:
1- لعبت إسرائيل دورا في مساندة انفصال جنوب السودان بعد حرب أهلية دامية
2- لعبت إسرائيل دورا مركزيا في مساندة مادية وفنية وسياسية لإثيوبيا لاستكمال سد النهضة الذي خلق لمصر مشكلة مستعصية، فالطابق الرابع من مبنى وزارة المياه والري الإثيوبية يقتصر على الموظفين من المهندسين الإسرائيليين.
3- محاولات استغلال القوى السياسية السودانية لتأليبها على مصر، وهو ما كان واضحا في محاولات إسرائيل استغلال العداء بين عبد الناصر والصادق المهدي في فترة الخمسينات من القرن الماضي، ثم الاتصال مع عبد الله خليل رئيس وزراء السودان، ثم من خلال العلاقة مع النميري لتسهيل نقل اليهود الفلاشا من إثيوبيا لفلسطين المحتلة ثم القيام بغارات إسرائيلية على السودان لضرب مراكز صناعية لحماس في فترة البشير بعد أن توترت علاقاته مع إيران، إلى ان تولى عبد الفتاح البرهان الاستخبارات العسكرية السودانية وأعاد دور نشاط مكتب الموساد السري في الخرطوم الذي كان فاعلا في نهايات فترة النميري.
ما هي السيناريوهات الأفضل لإسرائيل في ظل الحرب الحالية:
بعد لقاءات البرهان مع نيتنياهو في أوغندا، وتوافد المسئولين الإسرائيليين من مدنيين وموساد وخبراء زراعة، سعت إسرائيل إلى جر السودان للانضمام إلى اتفاقيات أبراهام خلال الفترة 2020-2021 وتطبيع العلاقات والاعتراف الدبلوماسي مقابل تقديم إسرائيل مساعدات لتطوير القطاع الزراعي السوداني،ومقابل رفع الولايات المتحدة للسودان من قائمة العقوبات ومن قائمة ما يسمى الدول «راعية الإرهاب» إلى جانب تقديم مساعدات مالية للسودان.
أما وقد تناحر العسكر فيما بينهم، فان إسرائيل تسعى لحل الإشكال بين طرفين قريبين منها، ولكنها في حالة استعصاء الوضع كما يلوح في الأفق، فان عليها أن تتعامل مع أربعة سيناريوهات على النحو التالي:
1- السيناريو الأول
تدرك إسرائيل أن إيكال السلطة للمدنيين سيضعف إلى حد كبير احتمالات تطور التطبيع والالتحاق السوداني باتفاقيات أبراهام، ورغم الاختراقات الإسرائيلية لبعض هذه القوى المدنية داخل قوى التحرر والتغيير، فان الأفضل لإسرائيل هو تعطيل العودة للسلطة المدنية في الفترة القريبة. بناء على ذلك من الأفضل لإسرائيل استبعاد القوى المدنية الفاعلة والتي لها موقف ضد التطبيع، بخاصة أن الرأي العام السوداني لا يبدي أي حماس في هذا الاتجاه، فكثير من التيارات الإسلامية واليسارية والبعثية والمستقلين والنقابات لا يميلوا لعلاقة مع إسرائيل، وقد يعطلوها في حالة نقل السلطة للمدنيين.
2- السيناريو الثاني
أن يفوز الجيش ويواصل عبد الفتاح البرهان دور جسر التطبيع مع إسرائيل، ومعروف أن صلب الخلاف بين قوات الدعم السريع والجيش هو أن البرهان كان يريد دمج الدعم السريع في الجيش خلال عامين (لتأمين عدم وجود قوى خارج سيطرته)، بينما كان حميدتي يريد الاندماج خلال عشر سنوات، وهي مدة كافية لتعزيز موقعه السياسي وتعزيز قواته ودورها في صياغة القرار.، لكن إسرائيل ترى أن فوز الجيش فيه نقطة ضعف وهي ان حلفاء الجيش من القوى السياسية بخاصة من الإسلاميين وبعض الطرق الصوفية(وهي كثيرة في السودان) قد لا يميلوا لتطوير العلاقة مع إسرائيل، بل وان بعض القادة العسكريين في الجيش لا يجدون في تعجل هذه الخطوة أي حكمة.
3- السيناريو الثالث
هو أن يفوز حميدتي (الدعم السريع)، وتواترت أنباء إعلامية إسرائيلية عن أن حميدتي أرسل شقيقه (عبد الرحيم) ومستشاره (يوسف عزت) إلى إسرائيل لمساندته عسكريا وسياسيا، وهو يأمل في أن تساهم الإمارات العربية – ذات العلاقة القريبة له -في هذا الجهد مع إسرائيل لترجيح كفة الدعم السريع، تحت غواية انضمام السودان رسميا لاتفاقات أبراهام، وهو أمر فيه من الغواية الكثير لكل من إسرائيل والإمارات بخاصة أن الثانية تماحك قطر التي تبدي موقفا هو الأقرب للجيش. لكن بعض القوى المدنية بخاصة حزب الأمة القومي الذي تقوده مريم المهدي وزيرة الخارجية السودانية (وهي ابنة الصادق المهدي) تبدي بعض التردد والحذر من التقارب مع إسرائيل على الأقل في الظروف الحالية رغم تقارب والدها كما ذكرت من إسرائيل في فترة مواجهته مع مصر الناصرية فهي تدرك ان القاعدة الحزبية لها لا تميل لخيار التقارب مع إسرائيل.
4- السيناريو الرابع
وهو الفوضى من خلال استمرار الصراع بين الأطراف مع تزايد التدخل الخارجي الإقليمي أو الدولي، ونظرا لعلاقات إسرائيل مع كل دول الجوار السوداني، فان الاحتمال أن يبرز الدول التشادي لاحقا في الموضوع السوداني، كما أن الولايات المتحدة تسعى للتضييق على النشاط الصيني في السودان وتحاول التواجد على سواحل البحر الأحمر السودانية. وقد تكون تشاد هي الدولة الإفريقية الأكثر ترحيبا بمساعدة إسرائيل في حالة الرغبة بالتدخل بطريقة سلمية أو عسكرية أو أمنية بخاصة أن قبيلة الرزيقات التي ينتمي لها حميدتي تمتد في الجزء الشرقي من تشاد، كما أن العلاقات الأمنية التشادية تطورت في الآونة الأخيرة من خلال نزوع الرئيس التشادي محمد ديبي للوصول للمساندة الأمريكية عبر النفوذ الإسرائيلي.
- د. وليد عبد الحي يكتب: كيف ننظر للمشهد التركي؟ - الأربعاء _31 _مايو _2023AH 31-5-2023AD
- د. وليد عبد الحي يكتب: فصام العقل السياسي العربي - الأحد _28 _مايو _2023AH 28-5-2023AD
- د. وليد عبد الحي يكتب: أزمة الدين الأمريكي ودلالاته - الجمعة _26 _مايو _2023AH 26-5-2023AD