عندما دخلت زوجة سقراط السليطة إليه جالسا لا يفعل شيئا بينما هي منهكة من عمل البيت، صرخت به: أنا أقوم بكل شيء وأنهكني العمل، فماذا تفعل أنت: رد سقراط: أنا أفكر.
ما سبق يوسوس لي بفكرة تبدو غريبة، فأنا افترض بداية أن اغلب الفلاسفة – الذين ندعي أنهم حرروا العقل- كان لهم نظرة «مَرَضِيَة» تجاه المرأة تكمن في «تعالي مرضي عن الجنس»، وأحيانا تختلط هذه النظرة بجعلها موضعا للمتعة فقط (مع أن المتعة متبادلة).
فنيتشة (فيلسوف القوة) اعتبر المرأة فخ الطبيعة المنصوب للرجل.. لكنه أحب فتاة وتذلل لها متخليا عن «السوبرمان» الذي أسهب في شرحه لكنها رفضته، وهنا قال إن الزواج مقبرة العشق.. وكأنه يريد «فلسفة هزيمته» الوجدانية.
وهل كان سبب عزوف إيمانويل كانت (ناقد العقل الأشهر) عن الزواج مقنعا؟ فقد برر عدم زواجه نهائيا بانه «يخاف من عدم قدرته على إطعامها».. فإذا كان الأمر على هذا النحو فهل هذا هو نفس السبب لامتناع جون هوبز وجون لوك (منظرو العقد الاجتماعي) وآدم سميث(فيلسوف الرأسمالية) وديكارت (زارع الشك في المعرفة) وسبينوزا (فيلسوف الطبيعة) وليبنتز (فيلسوف الرياضيات المتفائل) وبنثام (فيلسوف المنفعة واللذة) وقبلهم جميعا أفلاطون عن الزواج؟
بعض من الفلاسفة أحب دون زواج وباتفاق غريب، فسارتر وسيمون دي بوفوار لهما قصة شائعة، علاقة حميمة لمدة خمسين عاما يمارسان العلاقة بينهما وليس لديهما مانع أن يمارس كل منهما العلاقة مع آخرين..ومارتن هيدغر صاحب الخلفية النازية أحب يهودية فيلسوفة (حنة ارندت المشهورة في تحليل الثورات) على أساس ما فسره بان هذه «حبيبة» وهذه «زوجة».
ونظرة الكثير من الفلاسفة للحب نظرة تعزز هواجسي، فأفلاطون الذي لم يتزوج اعتبر الحب «الوجع الوحيد الممتع» بينما رآه شوبنهاور كما رآه كيركيغارد بأنه «نزع لاستقلالية الإنسان» لذا رفض أن يخسر استقلاليته بالزواج، أما جان جاك روسو، ورغم عقده الاجتماعي فقد تزوج وأنجب خمسة أطفال لكنه تركهم «لترعاهم دور اللقطاء» رغم انه صاحب كتاب «إميل» حول الطريقة الأنسب لتربية الأطفال.
أما الحكام والقادة، فتتسم الصورة العامة للحكام في الذهن الشعبي بقدر من «المهابة والوقار»، ومن بين مقومات هذا الوقار «وهم الترفع» عن غواية الجنس واستبعاد تسلله لوعي الحكام أو لاوعيهم عند اتخاذ قراراتهم، ولفهم العلاقة بين الجنس والسلوك السياسي -للقادة بشكل أساسي- لا بد من تخليص المنظومة المعرفية للمجتمعات من هالة «المهابة والوقار» التي تكلل رؤوس الحكام وتقيم في منظومتنا المعرفية لنتمكن من كشف العلاقة.
وتزودنا المكتبة الأكاديمية -بخاصة الغربية- بفيض من الدراسات التي تعالج هذا الموضوع، منها دراسات نظرية مثل كتابValerie Sperling وعنوانه Sex، Politics، and Putin وصادر عن جامعة أكسفورد عام 2014، ومنها كتب ميدانية تقوم على دراسات كمية واستطلاعات رأي مثل دراسة Joris Lammers وعنوانها Power increases hypocrisy: Moralizing in reasoning، immorality in behavior صادرة عام 2010، ومنها ما يجمع بين البعد النظري والتقصي الميداني مثل دراسة Christopher Ryan وموضوعها Sex at Dawn: The Prehistoric Origins of Modern Sexuality
فما الذي تصل له هذه الدراسات؟:
1- تشكل السلطة مصدر جذب للمرأة، وكلما كانت مساحة السلطة للحاكم أكبر كلما كانت «غوايته أكثر»، ومن خلال دراسة 1561 موظفا في مستويات عليا مختلفة من الهرم السياسي تبين «علاقة ارتباط قوية» بين الخيانة الزوجية أو النزوع للتحرش وبين مستوى «المنصب» من ناحية، ومستوى الصلاحيات المعطاة لمن يشغل ذلك المنصب من ناحية ثانية، وثمة علاقة بين النزوع للتحرش «اللفظي أو الفعلي» وبين فرط الإحساس بالثقة والشعور بعدم قدرة الآخرين على المحاسبة،.
2- أن ارتفاع نسبة الخيانة بين السياسيين الكبار «الذكور» ناتج عن أن عدد النساء في المناصب العليا «التمكين السياسي» أقل كثيرا من نسبة الرجال في هذه المواقع، وهو ما يعني فقدانها «فرط الإحساس بالثقة» والقدرة على تجنب المساءلة والمحاسبة، وهو ما يجعلها متهيبة من التحرش بالذكور.
3- عند التأمل في أقوال بعض السياسيين «الكبار» ممن كانت لديهم الجرأة للتعبير عما يختلج في نفوسهم نتبين العلاقة بين حجم السلطة والنزوع الجنسي، لنتأمل ما نسبته هذه الدراسات لبعض الرؤساء الأمريكيين:
– الرئيس كندي: يصيبني صداع حاد وشرود ذهني إن لم أجد امرأة كل 3 أيام (الشبق الواضح)
– جورج بوش: أطباء النساء لا يستطيعون ممارسة الحب كالسياسيين(قسوة السياسة واعتياد المشهد)
– جيمي كارتر: كم تلهفت على النساء، وكم زنيت بقلبي، لكن الله سيغفر لي (الفضيلة المفتعلة)
– أما ما نشرته الواشنطن بوست في 8 أكتوبر 2016 عن «وصف ترامب لتحرشاته الجنسية» فهو أمر «مقزز» اعتذر عن نقل مضمونه.
4- التلاعب «بلاوعي» الجمهور من خلال الترويج للزعيم، فتحليل صور وإيحاءات الأقوال وحركة الجسد تكشف عن أن الرئيس الروسي «بوتين» يكرس فكرة الذكورة الجذابة لتكريس كاريزميته بخاصة بين جمهور «الناخبات» وضد خصومه.
وباستعراض هذه الدراسات لنماذج واسعة من الزعماء الذين مارسوا الخيانة الزوجية أو وظفوا سلطتهم للتحرش الجنسي بدءا من القياصرة والأباطرة وانتهاء بالرئيس الصهيوني كتساف وبرلسكوني وبيل كلينتون..الخ يتبين أن نسبة التأثير على مضامين القرار السياسي ليست كبيرة، باستثناء حالات التجسس التي تقوم بها النساء.
خلاصة القول، أن تأثير الجنس في مضامين القرارات السياسية يكون مؤثرا في حالة استعصاء ” العقد الجنسية عند الحاكم نفسه (مثل يحي خان أو ستالين أو القذافي..الخ) لكن الجنس اقل تأثيرا من خلال تأثير المرأة على الحاكم في قراراته باستثناء حالات التجسس.
وجه سياسي آخر لموضوع الجنس هو في العلاقات الدولية، ففي عام 1917 أعدمت الحكومة الفرنسية الراقصة المشهورة باسم فني هو «ماتي هاري» بتهمة التجسس لألمانيا، بعد العثور على «الحبر السري» في بيتها، وفي عام 1970 نشرت الحكومة الألمانية وثيقة تؤكد أنها بالفعل كانت جاسوسة تعمل لصالحها، فمهنة التجسس باستغلال الجنس أمر معروف، ولعل المخابرات المصرية هي الأكثر شهرة في الدول العربية في هذا الجانب، كما أن الكيان الصهيوني جند فنانات مصريات مثل راقية إبراهيم (التي مثلت مع عبد الوهاب ونجيب الريحاني…الخ)، والممثلة كاميليا…الخ.
والوجه الآخر لموضوع الجنس في العلاقات الدولية هي التجارة الدولية للجنس، وهنا تختلط التحليلات النفسية بالسياسية وبالاقتصادية، ويقدر تقرير أعده برلمان الاتحاد الأوروبي عام 2014 ان قيمة تجارة الجنس عالميا تبلغ 186(مائة وست وثمانون) مليار دولار سنويا، وأن دخل ألمانيا من تجارة الجنس عام 2014 هي 14،5 مليار، وفي هولندا 500 مليون، بينما تصل في اسبانيا إلى 18 مليار دولار. ويقدر التقرير أن عدد العاملين في مجال الدعارة يتراوح ما بين 40-42 مليون نسمة، 75% منهم بين سن 13-25 سنة.، ويشير التقرير إلى أن 12% من مواقع الإنترنت هي مواقع إباحية، يزورها شهريا حوالي 72 مليون فرد، وأن 30% من الأوروبيين سبق لهم أن دفعوا مالا لممارسة الجنس(الغريب أن التقرير يشير إلى أن 60% من الرجال شعر بالخجل بعد ممارسة الجنس بالمال).
ويختلط بتجارة الجنس موضوع آخر هو الهجرة الدولية للنساء(تهريب النساء من بلد لآخر)، وتشير التقارير الدولية الموثقة إلى أن58% من المهاجرات لأوروبا يتم تهريبهن لتجارة الجنس”، وأن 70% من مومسات أوروبا هن نساء مهاجرات جاء اغلبهن(70%) من أوروبا الشرقية و 12% من أفريقيا، و11% من أمريكا اللاتينية والكاريبي، و3% من آسيا، و4% من بقية الدول الأوروبية.
وثمة بعد دولي آخر لموضوع الجنس هو المناقشات الدولية لتقنين أو عدم تقنين تجارة الجنس، وقد ناقش البرلمان الأوروبي الموضوع مرارا ورفضه، رغم أن 77،6% من الأوروبيين يوافقون على السماح بالدعارة شريطة تنظيم ذلك قانونا..لكن اللجنة القانونية في الاتحاد الأوروبي رفضت ذلك عام2007 (رغم أن عددا من الدول الأوروبية تجيزه).
وبعد آخر أكثر تعقيدا في العلاقات الدولية وهو جرائم الاغتصاب خلال الحروب الدولية أو الأهلية، وهنا ينقسم النقاش إلى بعدين(قانوني دولي) ونفسي دولي(محاولة تفسير تباين الدوافع من مجتمع لآخر من ممارسة الاغتصاب خلال الحرب)، وقد برزت هذه الظاهرة في حروب كثيرة، لكن أبرزها في الفترة المعاصرة هي ما جرى في راوندا (بين الهوتو والتوتسي) والصراع اليوغسلافي(الصرب والكروات والبوسنيين…الخ) وهاييتي والصومال وكشمير والبيرو وفي العراق وسوريا، وتقول دراسة MacKinnon بعد تحليل 140 تقريرا ودراسة أكاديمية عن هذه العلميات «إن عمليات الاغتصاب كانت في كثير من الأحيان تصور ويتم توزيع الأفلام في سوق تجارة الجنس، ومن خلال زيارة ستة معسكرات اعتقال للنساء المغتصبات تبين أن الصرب كانوا يعتقلون المرأة إلى حين التأكد من أنها حامل”. وتتباين التفسيرات لظاهرة الاغتصاب خلال الحروب بين مدارس ثلاث:
أ- أصحاب نظرية الماهية:
وتقوم هذه النظرية على أساس تأكيد «الذكورية العسكرية»، واعتبار المرأة جزءا من «أشياء» الرجل، وهنا تكون كل امرأة هدفا للرجل بحكم أنها «امرأة»، أي بحكم «ماهيتها»، والملاحظ أن الدراسات الخاصة بموضوع الاغتصاب في الحروب والتي تم جمعها من قبل المتخصصين تم انجاز 58% منها من قبل نساء، 14% رجال والباقي مشترك أو غير محدد، مما يعني أن اهتمام الرجل يعادل فقط 25%من اهتمام المرأة لأن الأمر مستقر في لاوعي الرجل بأنها «شيء»، وتستدل هذه المدرسة على رأيها بان 22% من المومسات (طبقا لدراسة أخرى) أكدن أن الرجل كان يمارس معهن كل أنواع الشذوذ باعتبارها «شيئا» ليس له ذات «الماهية» التي للرجل، بل إن المرأة ذاتها (في بعض المجتمعات) تقر بهذه الماهية، وهو ما يتضح في عزوف المرأة عن انتخاب امرأة أخرى في بعض المجتمعات.
ب- المدرسة البنيوية:
وترى في الاغتصاب طريقة لإذلال جماعة إثنية (قبيلة أو طائفة أو مذهب..الخ)، وهنا لا تكون كل النساء هدفا بل تكون نساء معينات هن الهدف، أي أن العنف الجنسي يستهدف «الهوية» الثقافية وتحطيمها، فمثلا ورد في تقرير للجيش الصربي الصادر عن وحدة العمليات النفسية خلال الحرب الأهلية في يوغسلافيا ما نصه حرفيا «إن معنويات المسلمين، ورغبتهم في القتال تتحطم بسهولة في حالة اغتصاب نسائهم بخاصة القاصرات منهن أو الأطفال».
ت- البنائية الاجتماعية:
وتقوم هذه المدرسة على فكرة تأكيد ذكورية المهاجم وأنثوية الضحية” بفعل النمط التاريخي للتفاعل بين الطرفين، وهذا السلوك ناتج عن السياق الاجتماعي الذي يصنع «تراتبية» الذكر والأنثى والمبني بشكل أساسي على فكرة «القوة» بمعناها الخشن، وهو أمر أكد عليه تقرير خبراء الأمم المتحدة في قضايا الاغتصاب في يوغسلافيا، وأعتقد –ولو أن الأمر يحتاج لمزيد من المعاينة- أن حالات الاغتصاب في سوريا والعراق وحالات أقل في اليمن تنتمي لهذه المدرسة..
ذلك يعني أن الجنس يدخل العلاقات الدولية من خلال: التجسس، التجارة، القانون الدولي، الحروب الأهلية والدولية، التنظير للعلاقات الدولية، أي أنه في كل تفاصيلها…
بعد كل هذا، هل كان فرويد مبالغا؟… ربما.
- د. وليد عبد الحي يكتب: علم النفس السياسي الصهيوني - الأثنين _20 _فبراير _2023AH 20-2-2023AD
- د. وليد عبد الحي يكتب: الجنس بين الفلسفة والسياسة - الأربعاء _8 _فبراير _2023AH 8-2-2023AD
- د. وليد عبد الحي يكتب: عملية القدس بين الدلالة الآنية والمستقبلية - الأحد _5 _فبراير _2023AH 5-2-2023AD