في أدبياتنا الدعوية والوعظية والتاريخية؛ أن رمضان شهر الانتصارات، فكانت كثير من غزوات النبي صلى الله عليه وسلم في رمضان، وكذلك كثير من المعارك في التاريخ؛ وكان المسلمون ينتصرون في هذه المعارك بفضل رمضان وروحه المشرقة المحلقة التي تفعل فعلها وتعمل عملها في نفوس المسلمين؛ حيث تخف أوهاق البدن وتخنس شهواته وتنتصر الروح وتشف النفس فتتطلع إلى ما عند الله تعالى، وتُقْبل من غير إدبار وتُقْدم من غير إحجام! لكن السؤال الذي يتبادر إلى الذهن الآن ويقفز للعقول: أي انتصارات تتحدثون عنها والأمة مفتتة مجزأة منهكة، تسيل دماؤها في كل مكان؟
فأي انتصارات تتحدثون عنها؟ وفي أي رمضان ستنتصر الأمة وتخرج من التيه الذي يبدو أنه مكتوب عليها؟ ومتى تنهض هذه الأمة من كبوتها؟ وأين آثار هذه العبادات وشعائر الدين كله في هذه الأمة؟ إلى متى تتحدثون عن الانتصار ورمضان والأمة مهزومة مكبلة منهكة منذ أكثر من نصف قرن، بل مقسمة مجزأة محتلة بالأصالة أو الوكالة منذ ما يزيد عن قرنين من الزمان؟!
أين الأداء الذي يحقق الأثر؟!
وبادئ ذي بدء لا بد أن نتساءل إن أردنا أن نضع الأمور في نصابها ولا يتشكك الناس في ربهم ودينهم: هل يؤدي المسلمون عباداتهم، ويتخلقون بأخلاق دينهم كما يجب أن يؤدوا ويتخلقوا، أم أنهم يؤدون الشعائر جثثاً هامدة منزوعة منها روح الإخلاص، والأمر كما قال ابن عطاء الله: الأعمال صور قائمة وروحها وجود سر الإخلاص فيها؟
إذا انتصرت بلدة من هذه البلاد وتحررت إرادتها – وهو أمر لن يكون قريباً – فهل يعني ذلك أن الأمة انتصرت؟ وإذا تحررت فكم تستغرق الفترات الانتقالية حتى ترسو موجات الثورات على شاطئ التحرر واستقلال الإرادة؟ وهل لرمضان أثر في تعزيز هذا كله.
أنا أزعم أن المسلمين لو أدوا العبادات بل الشعائر الكبرى فحسب بروحها وأخلاقها وتهيؤوا لها، وعظموها في نفوسهم وقلوبهم، والتزموا بما تقتضيه من انتهاء عن الفحشاء والمنكر وإتيان للمعروف، وما تثمره هذه العبادات من عقائد قوية وأخلاق متينة وسلوكيات حضارية؛ لما تهلهل مجتمع المسلمين ولا تسلط عليهم أحد، وهذا يتوقف على الفقه العميق الحقيقي لهذه العبادات، والغوص على دقائقها ومعانيها، والوقوف على مقاصدها وأسرارها: لماذا شرعت؟ وكيف تؤدى؟ وماذا تعني؟ وما آثارها وأهدافها؟ إلخ، عندئذ وعندئذ فقط تؤتي العبادات أثرها، ويحقق منها الصيام غاياته ومقاصده في حياة المسلمين.
وهذه الآثار كما تكون للفرد تكون للأسرة، وتكون للمجتمع، وتكون للدولة، وتكون للأمة، وتكون للإنسانية كلها؛ رقياً في الأخلاق، ورشاداً في السلوك، وحسناً في المعاملة، وفلاحاً في الدنيا والآخرة: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ 77 وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمينَ مِن قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ 78). (الحج).
أي انتصارات تقصدون؟!
ومن حق البعض أن يتساءل: إذا كنا نتحدث عن الانتصارات في رمضان، فأي انتصارات تقصدون؟ هل انتصار الليبيين على حفتر، أم المصريين على السيسي، أم السوريين على بشار، أم اليمنيين على الحوثي..
أم هو انتصار هذه الأمة كلها وتملّكها مقومات القدرة والقوة والصلاحية التي تمكن الأمة من الظهور والاستقلال والقرار الحر؟! وإذا انتصرت بلدة من هذه البلاد وتحررت إرادتها -وهو أمر لن يكون قريباً- فهل يعني ذلك أن الأمة انتصرت؟
وإذا تحررت فكم تستغرق الفترات الانتقالية حتى ترسو موجات الثورات على شاطئ التحرر واستقلال الإرادة؟
وهل لرمضان أثر في تعزيز هذا كله، واستثمار كل المعاني الإيجابية التي تقف بالأمة على مصاف العزة والوحدة والقوة، وتدفع عنها يد المعتدين بالأصالة أو بالوكالة؟
الانتصار الذي نريده:
إن الانتصار الذي نريده أولاً قبل كل انتصار ولرمضان أثر كبير في ترسيخه وتحقيقه هو تحرير إرادة الإنسان وانتصاره على نفسه؛
شهوات نفسه، وشيطانه، اللسان وآفاته، السلبية واللامبالاة.. إلخ،
فالمقصد الشرعي من وضع الشريعة كما يقول الإمام الشاطبي إخراج المكلف عن داعية هواه حتى يكون عبداً لله اختياراً، كما هو عبد لله اضطراراً.
- د. وصفي أبو زيد يكتب: الدولة الحديثة.. ماذا قدمت للإنسان؟ - الثلاثاء _24 _مايو _2022AH 24-5-2022AD
- د. وصفي أبو زيد يكتب: في فقه الاختلاف وكيفية الخروج منه - الأحد _8 _مايو _2022AH 8-5-2022AD
- د. وصفي أبو زيد يكتب: من آثار الربانية على الفرد والمجتمع - الجمعة _6 _مايو _2022AH 6-5-2022AD