عندما أراد الإمام النووي رحمه الله تعالى أن يشرح كتاب «المُهَذَّب» في الفقه الشافعي للإمام الشيرازي رحمه الله تعالى أحبَّ أن يقدِّمَ له بكلام تمهيدي في آداب المفتي والفتيا والمستفتي، ليكون منارةً لقارئ الكتاب تعريفًا له بمكانة أهل الفقه في التاريخ الإسلامي، وإرشادًا لكل طالب علم حتى لا يغتر بنفسه.
ومما قاله الإمام النووي رحمه الله تعالى في مقدمته هذه:
«اعلم أن الإفتاء عظيمُ الخطر، كبيرُ الموقع، كثير الفضل، لأن المفتي وارثُ الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم، وقائمٌ بفرض الكفاية، لكنه معرّضٌ للخطأ، ولهذا قالوا: المفتي موقع عن الله».
ولهذا المعنى خاصةً كان سلفنا رضوان الله تعالى عليهم يفرون منه، ويدفعون به إلى أهله شعورًا منهم بعظم المسئولية.
فقد جاء عن الفقيه عبد الرحمن بن أبي ليلى التابعي أنه قال: «أدرَكْتُ عشرين ومئةً من الأنصار من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، يُسْألُ أحدهم عن المسألة فيردُّها هذا إلى هذا، حتى ترجع إلى الأول».
وفي رواية: «ما منهم مَنْ يُحَدِّثُ بحديثٍ إلا ودّ أنّ أخاه كفاه إياه. ولا يُسْتَفْتى عن شيء إلا ودّ أنّ أخاه كفاه الفتيا».
لذلك كانوا لا يُقَدِّمون إلى هذه المواقع إلا من قدّمه الله تعالى بزيادة علمٍ، وعقلٍ، وحِلمٍ، وفضلٍ. إمامُهم في ذلك قول الله تعالى حكايةً عن نبيِّ بني إسرائيل شمعون في تقديم طالوت على سائر قومه: ﴿إن الله اصطفاه عليكم وزاده بسطة في العلم والجسم. والله يؤتي ملكه من يشاء والله واسع عليم﴾.
وهم في تقديمهم لمن هذا وصفه إنما يقتدون بنبينا محمد صلى الله عليه وسلم في اختيار عُمَّالِه اعتمادًا على الأهلية، فعندما جاءه الصحابي الجليل أبو ذر الغفاري، رضي الله عنه، طالبًا أن يستعمله في بعض النواحي، قال له النبي صلى الله عليه وسلم : (يا أبا ذر! إنك ضعيف، وإنها أمانة، وإنها يوم القيامة خِزيٌّ وندامة إلا من أخذها بحقها).
فلا الأسبقية، ولا الصلاح، هما المعيار لوحدهما، وإنما لا بد من الأهلية. لأجل هذا كانوا يعرفون قدر أنفسهم، فلا يتقدمون على أصحاب الأهلية، رائدهم في ذلك حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (من ولّى أمرَ المسلمين رجلًا وفيهم من هو خير منه وهو يعلم فقد خان الله ورسوله).
وفي سير علمائنا الأعلام الكثير من المواقف المعبرة عن هذا الخلق، الذي بات اليوم أندر من الكبريت الأحمر.
من ذلك ما ذكره الحافظ الذهبي في ترجمة فقيه مكة عطاء بن أبي رباح من (سير إعلام النبلاء 5 : 82)، أن عمر بن كيسان قال : «أَذكُرُهم في زمن بني أمية يأمرون في الحج مناديًا يصيح: لا يُفتي الناسَ إلا عطاء بن أبي رباح، فإن لم يكن عطاء فعبد الله بن أبي نجيح».
ومن ذلك أيضًا ما ذكره التاج السبكي في (طبقات الشافعية الكبرى 8 : 211) أثناء ترجمته للإمام الكبير العز بن عبد السلام سلطان العلماء، أنه لما استقرّ بمصر، أكرمه حافظ الديار المصرية وزاهدها عبد العظيم المنذري، صاحب كتاب (الترغيب والترهيب)، وامتنع عن الفتيا، وقال : «كُنّا نُفتي قبل حضور الشيخ عز الدين، وأما بعد حضوره فمنصب الفتيا متعَيَّنٌ فيه».
وقد بادله سلطان العلماء الاحترام بمثله، إذ كان يُسْمِعُ الحديث قليلاً بدمشق، ولكنه في مصر، واحترامًا لمكانة الحافظ المنذري، توقف عن التحديث، بل صار يحضُرُ مجلس الشيخ زكي الدين المنذري، ويَسْمَعُ عليه في جملة من يَسْمَع، ولا يُسَمِّع. (ينظر: طبقات الشافعية الكبرى 8 : 261).
والأمثلة على هذا الخلق السامي عند سلفنا رضوان الله عليهم كثيرة جداً. وبمثل هذه النفوس عَظُمَ العلم في أعين الناس وأعين الحكام، وما هان العلم عند هؤلاء إلا عندما هان عند أهله، وهو في نفسه لا يهون.
ورحم الله تعالى الإمام سفيان الثوري القائل: « ما رأيت الزهد في شيء أقل منه في الرئاسة: تجد الرجل يزهد في المطعم والمشرب، والمال، والثياب، فإن نوزع الرئاسة حامى عليها وعادى». (السير: 7 / 262).
- د. وصفي أبو زيد يكتب: الإفتاء بين الأمس واليوم - الأربعاء _1 _مارس _2023AH 1-3-2023AD
- د. وصفي أبو زيد يكتب: تسعة أعوام على الخروج.. ولطائف المنن الإلهية - الأثنين _27 _فبراير _2023AH 27-2-2023AD
- د. وصفي أبو زيد يكتب: الثقافة الأدبية من مقومات الداعية الناجح - السبت _25 _فبراير _2023AH 25-2-2023AD