لم أكن شاباً يافعاً بقدر ما كنت طفلاً أحلم بأن يزداد مصروفي كلما كبرت!
وأن أرى ما حدثني به والدي -رحمه الله- عن قريتنا الكوفخة وما روته والدتي عن قريتها المحرقة،
وهما على كل حال من قرى قضاء غزة، الفقيرة اقتصادياً الغنية بالحب والتواصل الاجتماعي.
لم نكن نعيش في المخيم -مخيم الشاطئ- ولكنه لم يبعد عنا كثيراً حيث المواجهات المستمرة مع جنود الاحتلال، شباب وأطفال يرشقون الحجارة على جنود مدججين بالسلاح والهراوات والجيبات المصفحة،
في كل لحظة مشاهد الكر والفر على حافتي الحواجز التي صنعها المتظاهرون من الإطارات المشتعلة «الكوشوك»
وما تيسر من حجارة كبيرة وحاويات القمامة، في ظل غيوم الغاز المسيل للدموع وزخات من الرصاص التي يطلقها جنود الاحتلال الإسرائيلي!
لا أحد في ذلك الوقت يفكر في المقارنة بين ما يملكه الشباب الثائر من أدوات لا تتجاوز الحجارة والمولوتوف،
وبين ما يملكه الجيش الإسرائيلي من سلاح وغاز مسيل للدموع وآخر سام،
وطائرات تراقب وكاميرات تسجل ووحدات المستعربين وطابور العملاء!
فتلك مقارنة ظالمة ومقاربة فاشلة بكل تأكيد.
إرادة تتجدد وثورة تستمر
لكن الجميع كان يرى أن ثمة إرادة تتجدد وثورة تستمر،
وشعب يستيقظ من جديد بعد 40 عاماً على جريمة النكبة 1948 و20 عاماً على خيبة النكسة 1967.
إنه شعب أدرك أن الثورة لا يمكنها أن تنتصر عبر تنظيمات مسلحة فقط أو مجموعات فدائية تتجمع في دول الطوق،
بل لابد من قوة شعبية تطارد الاحتلال في شوارع المدن المحتلة وأزقة المخيمات في الضفة وغزة والقدس.
بين الفينة والأخرى أُحدث الشباب والفتيات عن مواقف ومشاهد من الانتفاضة الأولى -انتفاضة الحجارة- فأتفاجأ أنهم لا يفهموا ما أقول!
فأستدرك أنني أحدثهم عن منع التجول الذي كان يفرضه الجيش الإسرائيلي من الساعة 7 مساء وحتى الثالثة فجراً وقد تتغير المواعيد من فترة إلى أخرى،
لكنني أذكر أننا لم نكن في بعض الأوقات نستطيع أن نخرج لصلاة المغرب بسبب دخول وقت منع التجول الذي كنا نسميه «الطوق»!
لا أحد في تلك الانتفاضة لم يعاني من استنشاق الغاز المسيل للدموع أو يتعرض للتفتيش على الحواجز الطيارة وسط المدن وعلى حدود القرى والمخيمات!
بل لا أحد يستطيع أن يخرج من بيته بدون أن يحمل معه الهوية الشخصية،
حتى أنا -ولم أكن وقتها قد بلغت السادسة عشر- فقد كنت مضطراً لحمل شهادة الميلاد لأثبت أنني لا زلت صغيراً بسبب بنيتي الجسمية الكبيرة نسبياً!
لم تكن كل الأيام متشابهة بل كان بعضها أكثر دموية!
فأن يسقط ثلاثة أو خمسة شهداء وعشرات الجرحى في حي الشيخ رضوان أو مخيم الشاطئ مثلاً،
فهذا يعني أن موجة من فعاليات الانتفاضة والمواجهات ضد الاحتلال ستعلن عنها الفصائل الفلسطينية،
وأن إعلان الإضراب التجاري الشامل ومنع حركة السيارات؛
هي صور للتعبير عن الحداد الوطني والتضامن مع أهالي الشهداء، واحتراماً لتلك التضحيات الغالية.
المدرسة جزء من ساحات النضال
لم تكن المدرسة في تلك السنوات استثناء من كونها جزء من ساحات النضال..
فلم تمضِ سنة دراسية بلا إغلاق للمدارس الحكومية أو مدارس الأنروا «الوكالة»!
كان القرار يصدر عن ضابط التعليم الإسرائيلي الذي يمثل الاحتلال بأبشع صوره، في محاولات بائسة لتجهيل شعب عرفه العالم بأعلى نسب للتعليم زمن النكبة والنكسة،
ففي إحدى سنوات الانتفاضة أخبرنا ناظر المدرسة «المدير» أن أيام الدراسة الفعلية كانت 37 يوماً فقط!
كان ذلك في المرحلة الإعدادية حيث ابتكر التعليم في الوكالة «بطاقات التعلم الذاتي» لتجاوز حالات الإغلاق المستمرة للمدارس.
وفي يوم الجمعة 8 أكتوبر 1993 حيث الذكرى الثالثة لمجزرة المسجد الأقصى كنت كعادتي أصلي الجمعة في مسجد فلسطين وسط مدينة غزة،
وخلال الخطبة استمعنا إلى إطلاق نار حيث أصيب طفل بجراح،
وما أن انتهت الصلاة حتى كان الجيش يحيط بالمكان في محاولة لإفشال الاستعدادات التي قام بها شباب الانتفاضة في محيط المسجد،
من إشعال للكوشوك ووضع للحواجز -كنا نسميها متاريس- ورفع للأعلام الفلسطينية.
لا تزال الرصاصة في قدمي
وفي غمرة المواجهات شعرت بطلق ناري يخترق ركبتي والدماء تسيل! وعلى عجل حملني الشباب من بيت إلى بيت ثم أوصلوني للمستشفى للعلاج.
لم يكن المكث في المستشفى ممكناً لأنه وصفة للاعتقال ثم التعذيب، لذا تم عمل ما يمكن إسعافياً في ذلك الوقت،
وخرجت لاستكمال العلاج في البيت، والغريب أننا في طريق العودة واجهنا جيبات الجيش نفسها تغادر المكان وتمر من جانبنا في نفس الطريق ونحن في السيارة!..
ولا تزال رصاصة القناص الإسرائيلي في قدمي، منذ 25 عاماً وهي تذكرني بظلم الاحتلال وفي كل شتاء تذكرني بآلام لن تذهب إلا بالحرية والاستقلال.
وكالآلاف الذين دخلوا السجون الاسرائيلية كنت في الثانوية العامة «التوجيهي»،
ولم أبلغ الثامنة عشر بعد! صحيح أن الاعتقال ليس نزهة لكنني دائماً أقول أنني قضيت في السجن بالقدر الذي جعل مني أنا!
فإنني أشعر بأن التجربة الاعتقالية قد أكسبتني الكثير وطنياً وثقافياً،
كما أن «جامعة يوسف» التي أسسها الأسرى في سجن النقب الصحراوي كانت فرصة لاكتساب علوم لا تتوفر في جامعات العالم.
في السجن تعرفت على أبطال وعشت مع قادة، كانوا رموزاً في النضال وأصبحوا بعد ذلك قادة في المقاومة وأعلام يُعرف بهم الوطن.
إثنان وثلاثون عاماً مضت ولا أجد أكثر شبها بانتفاضة الحجارة من مسيرات العودة!
في ظروف بداياتها وحالة الإجماع الوطني التي بدأت ضعيفة لكنها وصلت إلى الذروة..
فـي أدواتها ووسائلها الشعبية التي هاجمها السفهاء وامتدحها العلماء وتغنى بها الشعراء وانتمى لها القادة..
في روحها الوطنية التي أعجزت العدو وأحبطت خططه وفككت حكومته، وبعثت جيلاً من الفلسطينيين الجدد.
ثلاثة عقود ولا تزال انتفاضة الحجارة رمزاً لنضال الشعب الفلسطيني الذي لن يقبل الاحتلال، وسيبقى يقاومه حتى التحرير.
- د. ناجي الظاظا يكتب: نتنياهو والتحديات الذاتية لـ«حكومة الصهيونية» - الأحد _9 _أبريل _2023AH 9-4-2023AD
- د. ناجي الظاظا يكتب: ماذا بعد «الأقصى في خطر»؟ - الجمعة _17 _فبراير _2023AH 17-2-2023AD
- د. ناجي الظاظا يكتب: ماذا بعد «الأقصى في خطر»؟ - الجمعة _21 _أكتوبر _2022AH 21-10-2022AD