د. محمود حجازي يكتب: عظمة اللغة العربية

لقد قمت بتدريس اللغة الانجليزية لسنوات عديدة ولم أشعر بالمتعة العقلية التي شعرت بها عندما بدأت بتدريس اللغة العربية هنا في أمريكا وكم أشعر بالفخر وأنا أرى طلاب من مختلف دول العالم يريدون تعلمها،

واللّغة العربيّة من اللّغات العالميّة الأكثر انتشاراً في العالم حاليا، وتعتبرُ من إحدى اللّغات المُعتمدة في الأمم المُتّحدة واللغة الخامسة على مستوى العالم من حيث عدد المتحدثين بها وهى اللغة الرسمية في 22 دولة وهى الدول العربية في مناطق بلاد الشّام، وشبه الجزيرة العربيّة، وشمال أفريقيا،

وساهم هذا الانتشار الواسعُ للّغة العربيّة في تصنيفها كواحدةٍ من اللّغاتِ التي يسعى العديدُ من الطُلّاب إلى دراستها، وخصوصاً غير الناطقيّن بها؛ من أجل التعرّفِ على جمال كلماتها وهى من أكثر اللغات انتشار حاليا بأمريكا فقد ارتفع عدد المتحدثين بها في أمريكا من 615 ألف متحدث عام 2000 إلى 1.1 مليون متحدث عام 2014 ثم 1.3 مليون هذا العام.

وبرغم أن عدد المسلمين في أمريكا يتجاوز 7 مليون إلا أن معظمهم لا يتحدث العربية, ويبلغ عدد المتحدثين باللغة العربية حول العالم ما يقرب من 467 مليون شخص.

كما أنّها من اللّغات التي ظلّت مُحافظةً على قواعدها اللغويّة حتّى هذا الوقت؛ لأنّها لغة الإسلام والمسلميّن والقرآن الكريم، كما أنّ الثّقافة العربيّة غنيّةٌ جدّاً بالعديد من المُؤلّفات، سواءً الأدبيّة، أو العلميّة، أو غيرها، والتي كُتِبتْ بِلُغَةٍ عربيّة فصيحة،

ولـ(اللّغة العربيّة) أهميّةً كبيرةً في الثّقافة والتّراث والأدب العربيّ؛ لأنّها تُعتَبر جزءاً من الحضارة العربيّة، وهي لغة الإسلام، والقرآن الكريم، والأحاديث النبويّة الشّريفة، وساهم ذلك في تعزيز قيمتها ومكانتها عند العرب والمسلمين.

ساهمت اللّغة العربيّة في نهوض العديد من الحضارات، وخصوصاً الأوروبيّة، ممّا أدّى إلى تشجيع الأوروبيّين لتعلُّمها وفهمها للتعرّف على حروفها وكلماتها.

تتمتّعُ اللّغة العربيّة بخصوصيّةٍ لغويّةٍ تجعلها تتميّز عن اللّغات العالميّة الأُخرى، والتي تظهر في بيانها ووضوح مفرداتها وكلماتها.

تَستخدَم العديد من الكلمات اللغويّة في اللّغات الساميّة كلماتٍ ذات أصل عربيّ، ممّا ساهم في تعزيز التّقارب بين اللّغة العربيّة واللّغات العالمية الأخرى, وكلنا نتذكر عندما قامت وزيرة خارجية النمسا بافتتاح خطابها فى الأمم المتحدة باللغة العربية اعترافا منها بأن العرب في أوروبا قد أصبحوا شريحة اجتماعية فعالة ومنتجة ولها عظيم التأثير…

وقد ظهرت حقائق علمية جديدة مؤخراً تبحث في واقع ومستقبل لغتنا العربية، ليس فقط باعتبارها اللغة الخالدة لخلود القرآن، ولكن أيضا باعتبارها لغة تملك كل مقومات الهيمنة على اللغات الأخرى لثراء مفرداتها وعمق تعبيراتها,

وهذا ليس انحيازا عاطفيا للغة العربية بل نتائج أبحاث علمية لم يكشف عنها العرب ولا حتى المسلمون، وإنما الذي اكتشفها ونشرها هو فريق علمي غربي بإحدى جامعات لندن ببريطانيا، ليس فيه من المسلمين العرب إلا عالم واحد، هو الدكتور سعيد الشربيني من مصر وهو من تولى الإعلان عما وصل إليه فريق البحث العلمي والذي يبحث في علم يسمى بعلم اللغة الكوني،

وهو العلم الذي يدرس لغات العالم جميعها في وقت واحد بمقارنة النظام النحوي بينها ليعرِف أسباب بقائها واستمرارها ومدى قوتها وضعفها، أي هو العلم الذي يدرس لغات العالم دفعة واحدة ليعرف مراحل نشأتها وشبابها وشيخوختها، وليعرف بالتالي أي لغة يكتب لها الخلود لخصائصها ومميزاتها.هذا العلم بدأ سنة 2003 على يد مجموعة من العلماء من غير العرب في جامعة لندن، قسم “علم اللغة الكوني” حيث تم تسمية قسم اللغة العربية فيها بقسم “اللغة الأم”، وليس “قسم اللغة العربية” كما حدث مع اللغات الأخرى,

وقد توصل فريق البحث إلى أن غالبية اللغات الآن تحمل في ذاتها عوامل فنائها وموتها إلا اللغة العربية، فهي لغة خالدة لخلود القرآن حتى قيام الساعة.

وقد علل الدكتور سعيد هذا الحكم بالإشارة إلى أنه ثبت علميا أن جملة “الحمد لله” التي قالها آدم عليه السلام عند خلقه كانت بالعربية. وذلك لأن كلمة “الحمد” لا يمكن أن تترجم إلى أي لغة أخرى بما يحفظ لها معناها كما هو.

فهي إن ترجمت ستكون إما شكرا وهو مقابل شيء ما، أو مدحا، وهو ما تجوز فيه المبالغة، أما الحمد فهو الشكر دون مقابل والمدح دون مبالغة، وأنا شخصيا أثناء قيامي بتدريس اللغة العربية في المركز الإسلامي هنا وأثناء قراءة معاني القرآن الكريم باللغة الانجليزية للطلاب الجدد أثناء تحفيظهم بعض سور القرآن أرى أن هناك مفردات معينة لا تستطيع اللغة الإنجليزية توصيلها للمستمع فأذكر ذلك للطلاب وأضرب لهم أمثلة بالرغم من أن التراجم المتوافرة في المركز الإسلامي لعلماء أجلاء مثل محمد باكتال ويوسف على وغيرهم ومنهم من عاش سنوات عديدة في أرض العرب ليبحث في أصول اللغة العربية ليترجم بأفضل ما يمكنه,

وبالعودة لفريق البحث فقد ذكر أيضا أنه مع نهاية القرن الحالي فمن المتوقع أنه لن تبقى سوى ثلاث لغات فقط ذات تأثير في عالمنا منها وعلى رأسها اللغة العربية بالإضافة إلى الإنجليزية والصينية.

وقد أضاف فريق البحث بأن اللغة الإنجليزية التي تهيمن على العالم الآن بواقع واحد ونصف مليار متحدث في العالم قد دخلت عمليا في مرحلة شيخوخة وستموت على الألسن بمعنى لن تكون لغة الحديث إطلاقا، لكن سيُبقى عليها لغةً الكترونية للعلم فقط.

غير أنه في المقابل أكد فريق البحث على أن عدد اللغات التي تموت في السنة الواحدة هو 50 لغة، بمعدل لغة واحدة كل أسبوع، مشيرا إلى أن آخر لغة ماتت هذه السنة هي اللغة النوبية بمصر، وأن عدد اللغات الحية حاليا هو 601 لغة، بينما عدد اللغات التي ماتت هو 402 لغة، وأن عدد اللغات التي ماتت بالهند وحدها في السنة الماضية فاق أربعين لغة، كما أنه بحلول 2030 يتوقع أن تبقى فقط 15 لغة فقط من أصل الـ 601 الحالية، لتبقى فقط ثلاث لغات عند نهاية هذا القرن، أي بحلول 2100، طبعا لن تكون منها الفرنسية لأنه يتوقع ألا تستمر هذه اللغة على قيد الحياة أكثر من 70 سنة لتموت نهائيا. وهو ما يتم التعبير عنه بظاهرة “كوليرا اللغات”.

ولذلك يمكن القول بأن العربية لن تموت لاعتدال أصواتها، فهي لغة ليس بها اعوجاج لقوله تعالى في سورة الكهف: “الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجَا” وقريب من هذا كذلك قوله تعالى في سورة الزمر: “وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا القرآن مِن كُلِّ مَثَلٍ لَّعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ، قُرآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَّعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ”.

ويستشهد فريق البحث على ذلك بأن الكتب المكتوبة باللغة اللاتينية مثلا قبل 500 سنة فقط لا يمكن للعامة الآن قراءتها مهما حاولوا، ولا يستطيع ذلك إلا الدارسون المتخصصون جدا في هذه اللغة القديمة، فكانت النتيجة أن أصبحت هذه الكتب شيئا من التاريخ.

غير أن الأمر مختلف تماما في ما يتعلق باللغة العربية، ذلك أن العرب بإمكانهم قراءة الكتب المكتوبة قبل 1400 سنة، وأن ما دخل عليها من تغيرات لم يدخل على معاني الكلمات ومدلولاتها أو طريقة نطقها الصحيح، وإنما الذي أضيف إليها إنما هو مجرد نقطٍ للكلمات وشكل لها مما يزيد اللغة قوة ووضوحا.

وما يؤكد هذا الرأي هو القرآن الكريم، وهو الكتاب الذي ما يزال يتلى منذ عهد الرسول صل الله عليه وسلم حتى يومنا هذا بالحروف نفسها والأصوات نفسها التي بها نزل والتي تلاها النبي الكريم نفسه ولهذا يمكن القول بأن اللغة العربية محفوظة بحفظ الله للقرآن الكريم.

أما اللغة العِبرية مثلا فهي لغة ميتة منذ آلاف السنين، وقد أعاد اليهود استعمالها فعلا، لكنهم فشلوا في إحياءها حتى قاموا بتغيير الكثير فيها فصارت مسخا للغة التي كانت “عبرية” يوما ما في الماضي.

وأخيرا فإن الدكتور سعيد الشربيني يؤكد أن في بريطانيا الآن، كما في أمريكا يتم تدوين معظم الأبحاث والدراسات والوثائق الهامة، وحتى المعاهدات الدولية، باللغة العربية لتكون متاحة للأجيال القادمة، وهذا اعتراف ضمني منهم بخلود هذه اللغة وتفوقها على اللغة الإنجليزية. وما يدعم هذا ويؤكده أن جامعات مرموقة كثيرة حاليا بدأت تعتني باللغة العربية عناية خاصة، فبدأت تكتب بها وتترجم إليها،

وآخر جامعة شرعت في ذلك هي جامعة طوكيو باليابان, وهنا في أمريكا بدأت العديد من الجامعات بافتتاح قسم للغة العربية والجميل أنه يجذب الكثير من الطلاب والطالبات، وأنا شخصيا شرفت بتدريس بعض الطلاب في المرحلة الثانوية والذين قرروا التخصص في دراسة العربية في الجامعات الأمريكية ونحن على تواصل مستمر ويؤكدون بأن قرار تعلمهم العربية كان من أجمل ما فعلوه في حياتهم.