لست متضايقا من الحراك الفكري وتعدد الآراء في بعض المسائل الشرعية بل هو في جانب من جوانبه مؤشّر على اهتمام الناس بدينهم وحرصهم على عقيدتهم وهذا شيء يحمد ولا يذم إذا استطعنا أن نتجاوز حالات التنابز بالألقاب والاتهامات المتبادلة وسوء الظن والدخول في النوايا فكل هذا يذهب ببهاء المؤمنين ويعكّر في أخوّتهم وينقص من ثواب بحثهم عن الحقيقة وطلبهم للعلم.
النقاط التي أحب أن أوضحها في هذا المجال وباختصار:
أولا:
لا أحد يمنع من البحث والحوار العلمي في أي مسألة كبرت أو صغرت، والموضوع ليس موضوع تأجيل، ولا عدم اكتراث، بل هذا لا علاقة له بمنهجية التعامل مع الأحداث،
اكتب يا أخي بحثا، شارك في ندوة في حوار في أي وقت تشاء، كل هذا تؤجر عليه إن شاء الله،
لكن أن تثير هذه المناقشات والمجادلات وأنت مثلا في مجلس عرس أو مجلس عزاء أو في مناسبة ما، فهذا موضوع آخر،
خاصة إذا كان الحدث فيه أكثر من بعد وفيه أكثر من ملابسة، ولذلك قلنا في عنوان المقال السابق (أسئلة مشروعة لكنها غير مناسبة) يعني هي بحد ذاتها أسئلة مشروعة،
ثم أكدنا ذلك في ختام المقال:
(العلم والتعلم والفقه والتفقه له مجالاته ..عندنا مجالس ومدارس يمكن أن نتحاور فيها بكل شيئ)
ولا أدري كيف فهم أحد الأحباب أنني أدعو إلى ترك هذه المسائل وأنه لا ينبغي أن نهتم بها؟!
ثانيا:
مما قرأته في زحمة هذا الحراك تبيّن أن بعض الإخوة يظنون أن كل مسألة من مسائل علم العقيدة لها حكم أصول العقيدة لأنها على حد قولهم (هذه مسألة عقدية وليست فقهية)
والحقيقة أن هذه من أخطر المقولات التي مزّقت الأمة وأوغرت صدور بعضهم على بعض،
وهي مقولة لا ينبغي أن تؤخذ بإطلاقها، فأصول العقيدة التي يقوم عليها الإسلام كله شيء،
وفروع العقيدة شيء آخر، ومن قلّب كتابا في التفسير كتفسير ابن كثير مثلا فإنه سيجد اختلاف المفسرين في مئات الأخبار الغيبية حتى بين الصحابة أنفسهم،
بل لقد خالف ابن القيم شيخه ابن تيمية في تفسيره لقوله تعالى (أينما تولوا فثم وجه الله) حيث فسّر ابن تيمية الوجه هنا بالقبلة،
وفسره ابن القيم بأنه صفة لله، وأنكر ابن عثيمين حديث الجساسة في مسألة الدجال، مع أن الحديث في العقيدة وليس في الفقه وهو في صحيح مسلم،
أما تحديد أسماء الله تعالى التسعة والتسعين فلم تثبت بدليل قاطع ولذلك اختلف في تحديدها وفي معانيها أيضا،
ونحو ذلك كثير من أحوال الآخرة وصفات الجنة والنار، وكل هذا داخل في الاجتهاد المقبول (بين الأجر أو الأجرين)
لكن بعض الشباب لا يفرّق بين هذه المسائل التفصيلية الدقيقة وبين أصول العقيدة كالتوحيد والنبوة واليوم الآخر وكل ما ثبت بالدليل القاطع ورودا ودلالة.
ثالثا:
غريب أيضا أن أجد بعض المتحدثين لا يهمهم نسف الثوابت الواضحة،
فيسوق من النصوص ما يوهم أنه ليس هناك فرق بين التوحيد والشرك، وبين عقيدة أهل الإسلام وعقيدة أهل الكتاب (اليهود والنصارى)
وبعضهم توقف حتى مع (الملحدين)، وهؤلاء طبعا ليسوا بعلماء ولا يحسبون على أية مدرسة إسلامية،
لكن توضيح الأمور لهم أصبح واجبا على الدعاة وطلبة العلم، والمجاملة في هذا ليست مقبولة أبدا.
رابعا:
بعض الإخوة يظن أن مسائل (الولاء والبراء) كلها مسائل عقدية، وكلها مسائل قطعية، والحقيقة ليست كذلك،
وقد فصّلت هذا في البحث المحكم الذي نشرته قبل أيام بعنوان (مفهوم الولاء والبراء وصلته بفقه العلاقة مع الآخر)
وقد نشرت رابطه هنا، ويا حبذا من هو مهتم بهذا الموضوع أن يقرأه ويستدرك بما شاء، سأكون سعيدا جدا،
المهم أن لا نقول على الله وعلى دين الله بغير علم، أو بانطباعات مسبقة أو مستعجلة.
خامسا:
تطبيقا للنقاط السابقة فإن القول بأن اليهودي أو النصراني يدخل الجنة فهذه مخالفة صريحة
لقوله تعالى (ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين) وهذا بكل تأكيد لا يعني أن نظلمه أو نغمطه حقه في الدنيا مادام مسالما لنا،
ومثل هذا إطلاق كلمة (شهيد)، صحيح أن معناها اللغوي يحتمل أكثر من معنى، لكن معناها المتبادر خاصة بالنسبة للقتيل أنها شهادة الجنة.
أما الدعاء بالرحمة ونحو ذلك
فأراه من النوع الذي يقبل الاجتهاد ويتدخل فيه قصد القائل:
فمن قصد بالرحمة اللطف الإلهي فيما دون مغفرة الشرك فاجتهاده مقبول لأن رحمة الله تتسع لكل شيء حتى البهائم،
وقد ورد تخفيف العذاب عن بعض المشركين،
وهذا من الرحمة أيضا، هذا رأيي فيمن جرى على لسانه مثل هذه الألفاظ،
أما أنا فإني أدعو إلى تجنّب المصطلحات ذات البعد الديني في المناسبات المتعلقة بغير المسلمين لأن مفسدتها أعظم من منفعتها،
وفي كلمات المجاملة الدنيوية ما يغني،
وقد أنكرت بشدّة على أحد الإسلاميين حينما قال عن سليماني (إنه شهيد القدس) وكررها ثلاثا،
فهذا مما لا ينبغي ولا ينبغي السكوت عليه.
سادسا:
ملاحظة أخيرة هنا، أنا لا أدري لماذا يفترض بعض الأحباب أن كل زلة أو خطأ أو خلاف ما هو هجوم على الإسلام،
اتصلت بأحد المشايخ الأفاضل أسأله عن رأيه فيما يقال؟
فقال: والله يا أخي أنا بداية الأمر ما كنت أدري أنها نصرانية! أما وقد علمت الآن فإن مذهبي جواز الترحّم وحرمة الاستغفار،
فالحل يبدو أسهل بكثير والمسألة فيها من السعة ما فيها إذا التزمنا بثوابتنا وأخلاقنا وحسن ظننا ببعضنا،
وتجنبنا الوقوع في الفخاخ والفبركات الإعلامية التي قد تنطلي على بعضنا فيقيم الدنيا ولا يقعدها والخبر قد يكون كاذبا من الأصل.
اللهم اهدنا صراطك المستقيم وألف بين قلوبنا واجعلنا عندك من المقبولين يا رب العالمين.
وصل اللهم وبارك على سيدنا محمد وآله وأصحابه ومن اقتفى أثرهم إلى يوم الدين.
- د. محمد عياش الكبيسي يكتب: التكلف في تحريم ألفاظ لم يحرّمها الله - الأحد _26 _يونيو _2022AH 26-6-2022AD
- د. محمد عياش الكبيسي يكتب: الشارع العراقي ينتفض بوجه الغش والفساد - الأثنين _13 _يونيو _2022AH 13-6-2022AD
- د. محمد عياش الكبيسي يكتب: إلا رسول الله يا مودي - الأربعاء _8 _يونيو _2022AH 8-6-2022AD