من الأمورِ التي ينبغِي ألا يغفلَ عنها العلماءُ والدُّعاةُ والمصلحونَ وأصحابُ السّلطانِ أن الفسادَ والانحرافَ أمرٌ موجودٌ في المجتمعاتِ البشرِيّةِ منذُ القدمِ،
وهوَ ملاصقٌ للناسِ مؤمنِهم وكافرِهم، وبرّهم وفاجرهِم، ولكنَّ نسبةَ ظهورِه وخفائه، والجرأةِ على المجاهرةِ بِه، أو الاستتار فيهِ خاضعةٌ لثلاثةِ موازينَ:
الأول:
ميزانٌ داخليٌّ قلبيٌّ مردّهُ إلى التقوَى، والخوفِ من المولِى، والتّصديقِ بما عندَ اللهِ، ومَن عظُمَ وقارُ اللهِ في قلبِهِ لم يعصِهِ،
ومن خشعَ قلبُهُ خشعَت جوارحُهُ، والقائمونَ على هذا الميزانِ هم الدُّعاةُ إلى اللهِ بالحكمةِ والموعظةِ الحسنةِ، والمجادلةِ بالتي هي أحسنُ.
الثاني:
ميزانٌ مكتسبٌ عقليٌّ، قائمٌ على العلمِ بالحلالِ والحرامِ، والتّمييزِ بينَ الحقِّ والباطلِ، فمَن عبدَ اللهَ علَى جهالةٍ؛ فكأنّما عصاهُ،
والنيّةُ الصّالحةُ لا تصحّحُ العملَ الفاسدَ، وحرّاسُ هذا الميزانِ هم العلماءُ الثقاتُ الذينَ يحرّرونَ الفتاوَى الواضحةَ، ويقدّنونَ البيانَ الصحيحَ الصريحَ في المستجدّاتِ.
الثالث:
ميزانٌ خارجيٌ جبريٌّ، تمسكُ بزمامِه مؤسسةُ الحكم، فتفرضُ من التّراتيبِ الإداريّةِ، والتّدابيرِ الوقائيّةِ والوسائلِ العلاجيّةِ،
ما يصونُ الدينَ، ويسوسُ الدّنيا بِهِ، ويمنعُ الفسادَ، ويحاربُ الإفسادَ، وإنّ اللهَ جلَّ وعلا ليزعُ بالسّلطانِ ما لا يزعُ بالقرآنِ.
وكلُّ ميزانٍ محكومٌ بجملةٍ من الضوابطِ الشرعيّةِ والقواعدِ المصلحيّةِ، التي يؤدِي الخللُ في فهمِها إلى اختلالِ توازنِها، وانقطاعِ تكامُلِ أدوارِها.
فالعلماءُ مأمورونَ ببيانِ الحقِّ، وقولِ الصدقِ، والتصريحِ بحكمِ الشرعِ في النوازِلِ والمستجدّات، وتسميةِ الأشياءِ بأسمائها دونَ تدليسِ، ووزنِها بأوزانِها دونَ تطفيفٍ،
ولا يجوزُ لهُم بحالٍ من الأحوالِ مراقبةُ المزاجِ العامِّ على حسابِ الحُكمِ الشرعيِّ،
وإلّا فلمَ جاهرَ النبيُّ ﷺ ببيانِ الأخطاءِ والخطايَا التي كانَت عليها قريشُ في الجاهليّةِ، وألِفَها الناسُ مِن ظلمٍ ووأدٍ وخمورٍ وفجورٍ؟!
وكذلكَ الحالُ في الدُّعاةِ والمصلحينَ، هم مأمورونَ بالرّفقِ واللينِ، وإقناعِ العقولِ، والولوجِ إلى القلوبِ،
ومخالطةِ النّاسِ والصّبرِ على أذاهُم، وعدمِ التعالِي عليِهم، وسؤالِ أهلِ العلمِ في كلِّ ما أشكلَ.
أمّا صاحبُ السّلطانِ فتصرفاتُه على الرعيّةِ منوطةٌ بما يجعلُهم أقربَ إلى الصّلاحِ وأبعدَ عن الفسادِ،
ولا يكونُ ذلكَ إلا بقمعِ الظّلمِ، ومنعِ الفسادِ، ومحاربة ما ظهرَ من المنكراتِ،
ولا يجوزُ لهُ أن يفكّرَ بعقليّةِ الدّاعية القائمةِ علَى الوعظِ،
أو تقمّصِ دورِ العالِمِ في الإعلامِ دونَ الإلزامِ؛ لأنه يملكُ قوّة الجبرِ وسُلطةَ القهرِ دونهُما.
وعليهِ؛
فكما أنّهُ لا يجوزُ للدّعاةِ والعلماءِ العدوانُ على الحريّاتِ، فإنّه لا يجوزُ للحاكِمِ السكوت عن المُنكراتِ الظّاهرةِ، ولا شرعنةُ وجودَها،
فقد أجمعَ أهلُ الإسلامِ علَى تصرُّفَ السّلطانِ الخالِي عن قصدِ تحقيقِ المصلحةِ الشرعيّةِ فيهِ خيانةٌ للأمانةِ،
وهو مأمورٌ بالرجوعِ لأهلِ العلم في ذلكَ مخافةَ الانحرافِ والانجرافِ.
والعلمُ بوجودِ الفسادِ في المجتمعِ، لا يصلحُ دليلاً على إقرارِه، ولا علَى تشريعِ إشهارِهِ، واطّلاعُ بعضِ الناسِ على ما يقبحُ،
أو استماعهُم لما يحرمُ، أو ارتكابُهُم لما لا يجوزُ، سرّاً وخفيةً، لا يلزمُ منهُ إباحةُ هذا الأمرِ علناً؛ بذريعةِ أن المخالفاتِ العلنيّةَ يمكنُ إخضاعُها للرقابة.
ذلكَ العقولَ السليمةَ والفِطرةَ المستقيمةَ، تقتضِي التفريقَ بينَ الوقوعِ الفرديِّ في الخطأ أو الخطيئة، وبينَ إشاعتِهما في الناسِ،
فالأولُ أمرٌ مكتوبٌ بالقضاءِ الكونيّ، ويستحيلُ منعُه بالكلّيّةِ،
أما الثّانِي فهو مخالِفٌ للأمرِ الشرعيِّ، ويحرُمُ فعلُهُ البتّة.
واللهُ يتولّى الهدايةَ والرعايةَ.
- د. محمد الفرا يكتب: عقيدتنا في المسيح - الخميس _6 _أبريل _2023AH 6-4-2023AD
- د. محمد الفرا يكتب: فقه الوباء.. رفقاً بأنفسِكم وإخوانكم - الأربعاء _3 _أغسطس _2022AH 3-8-2022AD
- د. محمد الفرا يكتب: اتخاذ القرارات والمواقف السياسية.. دراسة شرعية تأصيلية - السبت _23 _يوليو _2022AH 23-7-2022AD