كان من قناعتي أنَّ الجهر بكلمة الحق والصدح بما يؤمن به الإنسان من قناعات أمرٌ ممكن وإن كان لا يخلو من عُسرٍ،
وأنَّ موضع العسر الحقيقي إنما هو في النطق بكلمة الحق في حضرة سلطان جائرٍ يمكن أن يقتل،
أما ما يكون داخل المجتمع بمختلف مكوناته.. فإنما هو من القبيل الأول.
وسمعتُ مرةً من أخي فضيلة الأستاذ محمد إلهامي وفقه الله أنَّه لا يقدر على هذا الأمر إلا أفذاذ الناس،
وجَعَلَ كلامَهُ عامًّا بما يشمل المقامين وإن كان في مقام السلطان الجائر أشق كما هو ظاهر.
وبقيت محتفظًا بهذه القناعة التي أشترك معه في أصلها دون درجتها، حتى مرَّت بي نماذج من الناس أثبتوا لي أنَّ القناعة التي أعتمدها ليست دقيقة،
وأنه فعلًا لا يقدر أن يبث رأيه ويثبت على قِيَمِه إلا أفذاذ الناس حقًّا،
وأنَّ كثيرًا من الناس متى تعارضت القِيَمُ مع هوى نفوسهم أو سطوة المجتمع من حولهم أو العائلة أو الحزب.. فإنهم يضعفون.
ثم إنَّ هؤلاء الضعفاء على مشارب؛ فمنهم من يُغرِّد بحسب الثقافة ذات السيطرة والسطوة،
ومنهم من لا يجاريها لكن يؤثر السكوت؛ عجزًا عن دفع ضريبة المخالفة، ولئلا يقع فيه الناس ويسلقونه بألسنةٍ حداد.
فتحصَّل أنَّ أفذاذ الناس هم من ينتصرون لصالح المقررات الشرعية والقيم المرعية، ويبقون ثابتين،
ويرضون أن يخالفوا البيئة مهما بلغت سطوتها واشتد تأثيرها،
دون أن يخشوا في الله لومة لائم، سواء كان هذا اللائم من المخالفين أو الموافقين، من الطالحين أو الصالحين.
وإيضاح هذا: أنَّ الصالح وإن كان يؤمن بالقيم ويدعو إليها..
إلا أنه حين يرى سطوة المجتمع تسلق المخالف فإنه يسايرهم لئلا يجعل في صفِّه،
فيصبح لائمًا له وإن كان متفقًا في الأصل معه!
ومن منافع الثبات على الحق:
ألا ينقطع المعروف بين الناس، وبقاء القدوات في سلامةٍ من الغبش، يحفظون المجتمع من الانحراف ولو كان قليلًا؛
لأنَّهم موضع نظر الناس، وسلوكهم هو الفتوى المعتمدة والقول الراجح في نظر الناس.
ومن ثمَّ فما يمكن أن يكون خسارةً على طريق الثبات على القيم لا يكون خسارةً على التحقيق؛ لأنَّه في ذات الله تعالى.
بل إنَّ أعظم منحةٍ جاءت بها الشريعة في هذا الموضع، والتي هي من مفردات فقه السنن الذي هو طريقة معاملة الله للبشر،
ومن الغيب الذي تم كشفُه لنا لفرط حاجتنا إليه، وبما يعدُّ أنيسًا للثابتين وسط قلة السالكين ما صرَّح به النبيُّ ﷺ بقولٍ فصلٍ واضحٍ بيِّنٍ بقوله:
«من التمس رضي الله بسخط الناس.. رضي الله تعالى عنه وأرضى الناس عنه،
ومن التمس رضا الناس بسخط الله.. سخط الله عليه وأسخط عليه الناس»!
رواه ابن حبان في صحيحه.
والحمد لله رب العالمين.
- د. محمد الأسطل يكتب: الجهر بكلمة الحق - الأربعاء _15 _مارس _2023AH 15-3-2023AD
- د. محمد الأسطل يكتب: المرابطون على ثرى أرض الشام - الأربعاء _8 _مارس _2023AH 8-3-2023AD
- د. محمد الأسطل يكتب: رسالة ينبغي أن تصل إلى طالبان - الثلاثاء _14 _فبراير _2023AH 14-2-2023AD