د. فتحي أبو الورد يكتب: «التعدد» بين تقييد المباح وتعقيده

أقرت الشريعة لولي الأمر في أوقات معينة وفي ظروف معينة ولمصلحة شرعية معتبرة بما اصطلح الأصوليون على تسميته بـ«تقييد المباح»، واعتبرت هذا من تصرفات الإمام أو رئيس الدولة، ومن مقتضيات السياسة الشرعية، مثل الذبح في أيام معينة عندما تقل الأنعام وذلك تقليلا للاستهلاك، ومراعاة لتوفير اللحوم للناس طوال أيام الأسبوع، وتقييد زراعة بعض المحاصيل الزراعية بمقادير محددة نظرا لحاجة الدولة لزراعة محاصيل أخرى ضرورية تحقق كفاية المجتمع وأمنه الغذائي، ومثل منع زواج العاملين بالسلك الدبلوماسي من نساء أجنبيات حفاظا على أسرار الدولة وحمايتها من أن تتسرب إلى جهات معادية، وكذا ضمان إخلاص هذه الفئة وولائها للدولة، ومثل تقييد أن تكون الزوجة الأولى من أهل بلد الزوج إذا كان بالنساء كثرة، حتى لا يترتب على الزواج بأخريات من قطر آخر عنوسة لبنات المسلمين داخل القطر، فيحدث تأخر زواجهن، أو يفوتهن قطار الزواج كما يقال، ويقعن في الفتنة، وقد يقيد الحاكم الزواج بالمسلمات فقط في المجتمعات الغربية، التي يكون المسلمون فيها أقلية لنفس العلة حتى لا تفتن المسلمات، فلا يجدن من يتزوجهن، أو خشية أن يتساهل الرجال في الزواج من الأجنبيات غير العفيفات، أو لغير ذلك من التعليلات المعتبرة.

المهم ان تقييد المباح الذي عناه الأصوليون يكون لتحقيق مصلحة شرعية معتبرة، ويكون لمدة زمنية معينة، في أماكن معينة، يعالج قضايا معينة، ويعمل ولي الأمر على حلها في أقرب وقت ممكن، لا أن يكون التقييد تشريعا عاما مؤبدا، وإلا أصبح تقييد المباح في هذه الحالة نظير التحريم، وهذا لا يكون إلا لله، ولرسوله صلى الله عليه وسلم.

ولذلك قيد الفقهاء تصرف الإمام بأنه التصرف الذي يتغيا المصلحة الشرعية، لا الذي يؤدي إلى نقيض المصلحة الشرعية، فقالوا: تصرف الإمام على الرعية منوط بالمصلحة.

أما ما يتردد هذه الأيام حول تقييد المباح في باب الزواج، وذلك باشتراط حصول الزوج الذي يرغب في التعدد -بعيدا عن قناعات الناس في موضوع التعدد – على إذن القاضي للزواج بعد تقديم طلب بذلك، واشتراط موافقة الزوجة، فهذا ليس من تقييد المباح في شيء، وإنما هذا هو تعقيد للمباح، فضلا عما فيه من إيقاع الزوج في العنت، وتعسير الحلال عليه، وكذا ما فيه من تسليط الزوجة على الزوج، في ظل مفاهيم خاطئة أشاعها الغرب، أجازت للرجل الخليلات، ومنعت عنه الحليلات، فأباحت للرجل والمرأة الزنا مادام ذلك يتم بالتراضي، ومنعت الرجل المتزوج من أن يتزوج بأخرى إذا احتاج إلى ذلك لأي سبب من الأسباب، وأفسدت هذه التشريعات والقوانين المجتمعات الغربية، ويراد لها أن تنتشر في ديار المسلمين لتفسدها، أضف إلى ذلك ما يقتضي هذا الإجراء من كشف ستر البيوت المسلمة، وإحراج الأزواج والزوجات على حد سواء، أمام المحاكم؛ بل ومؤداه هدم الأسر في ظل تأثر المجتمعات بالثقافة الغربية، ولا يخفى كذلك ما يترتب على هذه القوانين في حال إقرارها من أضرار للزوج، أو للمرأة المراد أن يتزوج منها في حال التوافق نظرا لتأخر الإجراءات وإصدار الموافقات.

ولا ينبغي لفقيه يفتي في هذا الشأن – ويحترم علمه – أن يغفل الدوافع وراء سن هذه القوانين في بلاد المسلمين اليوم، والجهات والمؤسسات المشبوهة التي تقف خلف هذه القضايا، والتي تسعى سعيا حثيثا لإقرار هذه القوانين في بلاد المسلمين، والتي مؤداها تعقيد المباح؛ بل ومنعه، وتسهيل الحرام، لا تقييد المباح الذي تحدث عنه الأصوليون وأقره الفقهاء بضوابط من أجل مصالح شرعية معتبرة للأفراد والمجتمع، ولمدة زمنية محددة، لا أن يكون تشريعا عاما مؤبدا.

إن ما يردده البعض اليوم لإساغة مثل هذه التشريعات باسم «تقييد المباح» إنما هو كلمة حق يراد بها باطل.

ويبقى التعدد كالدواء في الصيدلية يتناوله من يحتاجه فقط، ويبقى كذلك شأنا عائليا تتم مناقشته والتفاهم فيه داخل نطاق الأسرة، ويكون القرار الأخير فيه للزوج، كما أن للزوجة كامل الحقوق التي أقرها الشرع في حالتي الموافقة أو الرفض.