إن بعض المشاهد في هذا العالم تبقى راسخة في الذاكرة إلى الأبد، ومهما شاهد الإنسان من مشاهد بعدها، إلا أن ذلك المشهد يبقى كأنه آخر ما شاهد المرء، حتى أنه قد يبقى عالقا فيه.
في عام ١٩٦٨ توفيت والدتي ووالدي في أربعة أشهر، رحمهما الله تعالى رحمة واسعة. كنت ساعتها في كتّاب القرية أحفظ القرآن الكريم، نَادوا عَلىّ كَي أُودع كلاً منهما.
بعد أن غسلوهما وكفنوهما دخلت عليهما لأودعهما. كان كل واحد منهما نائما بهدوء، مُسرجا بالبياض كأنهما عروسين أُعدَّا للزفاف.
بكى الجميع يومها إلا أنا، فقد كنت صغيرا، معتقدا أني إذا ما ضَمَمتُهما سيقوم كل واحد منهما ليعانقني كما كانا يفعلان في السابق.
ضَمَمتُ كل واحد منهما فلم يقُمَ، بل ولم يتحرك أيٌ منهما، شددتُ عليهما بكل قوة،
وكل شيء بي يقول لهما: يا والدتي قومي، ويا والدي قم، لكن شيئا من ذلك لم يحدث.
ما زلتُ واقفاً هناك منحنياً نحوهما
وأنا اليوم ما زلتُ واقفاً هناك منحنياً نحوهما، يداي تحيطان بهما، أنادي عليهما بلا لغة:
مدا يديكِما وليعانقني كل واحد منكما لآخر مرة.
هذا الموقف جعلني أقف كثيرا لأتأمل فلسفة الموت. حين تأملتها: لم أجدها أداة ترهيب عدمية، ولا فزاعة عبثية.
الموت يعمل فينا ليذكّرنا بحقيقة وجودنا؛ إنك هنا لتعبد الله وتستعد للقائه، فإذا سيطر عليك حب الدنيا،
أتى ذكر الموت ليقصر الأمل، وإذا تلبّسك حب الموت؛ أتى الأمر بعدم تمني الموت ليعيدك لدار العمل.
لا يَتَمَنَّيَنَّ أحَدٌ مِنْكُمُ المَوْتَ لِضرٍّ نَزَلَ به، فإنْ كانَ لا بدَّ متَمَنِّيًا لِلْمَوْتِ فَلْيَقُلْ:
اللَّهُمَّ أحْيِنِي ما كانَتِ الحَياةُ خَيْرًا لِي، وتَوَفَّنِي إذا كانَتِ الوَفاةُ خَيْرًا لِي.
إن ذكر الموت معين على الفضائل؛ وما رأيت أعون على حسن الخلق والعفو عن المسيء من ذكر الموت، فتستحضر أن الدنيا قصيرة،
ولا تستحق أن تعادِي على فتات زائل كما يقول الدكتور ادهم الشرقاوي.
إن ذكر الموت معين على الجود؛ فالكفن لا جيوب له كما في المأثور الشعبي، فتسخو بالخير دون وجل.
إن ذكر الموت معين على حسن الظن بالله؛ فما لم تحصله في الدنيا من عدل يستقر يقينك أنك ستراه في الآخرة، فتؤجل الانتقام،
وتدفع أوراق من ظلمك للمحكمة الكبرى يوم القيامة.
إن ذكر الموت معين على الإخلاص، فالجزاء التام عن الإحسان سيكون بعد الموت فلا تترقب ثناءً من مخلوق، ولا تقديرًا لجهودك من أحد.
إن ذكر الموت معين على الاستمرار والصبر على الأذى لأنه لا جهد ضائع عند الله، ولا تناسيًا لصبر في سبيله،ولكنه الجزاء الأوفى، والحساب الأخير.
ليس الموت هو الفراق، الفراق الحقيقي أن يكون أحدنا في الجنة وحبيبه في النار.( رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا)
- د. عبد الغنى الغريب يكتب: الدين والفلسفة - السبت _21 _يناير _2023AH 21-1-2023AD
- د. عبد الغني الغريب يكتب: أمي وأبي وفلسفة الموت - السبت _14 _يناير _2023AH 14-1-2023AD
- د. عبد الغنى الغريب يكتب: مقتل السيدة سهير الأنصاري - الجمعة _30 _ديسمبر _2022AH 30-12-2022AD