ينسى هؤلاء المفتونون بالغرب أن الغرب حينما بدأ نهضته قد بدأها على أساس من تراثه القديم حين أحيا آداب وفلسفة اليونان واعتبرها المرجعية الأساسية لفكره ونظرياته.
وعلى الرغم من تواصل الغرب مع الحضارة الإسلامية إلا أنه لم يأخذ منها الجانب الثقافي الذي يشكل الروح والوجدان ويحدد الهوية والذاتية، وإنما أخذوا جانبا واحدا فقط وهو الجانب العلمي التجريبي…
أخذوا طب ابن سينا وكيمياء الرازي، ولكنهم لم يأخذوا نظامنا الاجتماعي أو السياسي أو مناهجنا التربوية أو الأخلاقية.
الأصالة ليست نقيض للمعاصرة
لقد حاول أعداء التراث والدين أن يوهموا الناس بأن الأصالة نقيض للمعاصرة،
وأن كل من يتمسك بالتراث فهو ماضوي وظلامي ومنفصل عن الواقع،
مع أن الأصالة ليست نقيضا للمعاصرة،والمحافظة على التراث ليس نقيضا للتقدم،
فلكل أمة ماضيها الذي يؤسس شخصيتها ويبنى كيانها، فالماضي هو حضارة وثقافة وتراث مشترك،
هو الحصن الذي يمنع من تفكك الذات وانهيارها لحساب المعاصرة بلا ضابط ولا مرجعية.
إننا نقول أنه لا تناقض بين أن يكون المسلم مؤمنا بالغيب فى مجال العقائد ، ومؤمنا بالعلم فى مجال الواقع المادي المشاهد،
فابن سينا وابن النفيس كانا مؤمنين بالغيب، ولم يمنعهم إيمانهم من البحث العلمي والوصول إلى أعظم النظريات العلمية في عصرهم.
وها هو العالم العربي المسلم (أحمد زويل) الحاصل على جائزة نوبل في العلوم لم يمنعه بحثه العلمي من أن يكون مؤمنا بالله، ويكررها عدة مرات في مقابلات صحفية من أنه لا يجد أي تعارض في نفسه بين الإيمان والعلم.
إن الذين يدعون إلى تجاوز التراث يقعون فى تناقض صارخ دون أن يشعروا.
إنهم يقولون:
إنه لا معاصرة ولا حداثة إلا بتقليد الغرب شبرا بشبر، وذراعا بذراع في كل مراحل تطوره،لكنهم يرفضون الاقتداء به في المحافظة على أصالته وتراثه القديم.
يفترض هؤلاء الذين يدعوننا إلى ترك التراث إلى أن التجربة الأوربية هي التجربة الوحيدة،
وأنها النموذج الذي ينبغي أن يحتذى به في التحديث والنهضة،
وبما أن أوروبا بدأت نهضتها بهدم تراثها الديني وأبعدت الدين عن مجال الحياة فإن نهضتنا مرهونة بذلك أيضا.
نقول لهؤلاء:
إن أوروبا ليست هي النموذج الوحيد للحداثة والتقدم، فهناك دول أخرى تقدمت ونهضت على الرغم من احتفاظها بتراثها ودينها وعاداتها وتقاليدها،
فاليابان على سبيل المثال اختلفت مسيرة التحديث فيها عن كل بلدان أوروبا وأمريكا، فالمحافظة على التراث الديني عندهم،
واحترام عقيدة الشنتو، والإخلاص للإمبراطور، كل هذه الأشياء كانت عوامل أساسية في مسيرة العصرنة في اليابان.
بل إن حركة الحداثة في اليابان قد تمت ضمن دائرة المحافظة الشديدة على قوميتها،
والتعصب البالغ للغتها الأم، وتقديسها لماضيها، والاحترام الشديد لمقدساتها وتراثها،
وهذا ما أقام عندها حصنا منيعا في وجه الشيوعية.
وبهذا يتأكد لنا مدى خطأ هؤلاء الذين يستخفون بتراثنا، ويعلقون نهضتنا على نسياننا لكتابنا وسنتنا. فهؤلاء هم اليابانيون متمسكون بعقيدتهم،
ومع ذلك لم يكن هذا التمسك سببا لتأخرهم، ولا عائقا لتقدمهم.
فهل تكون عقيدتنا الإسلامية الصحيحة وتراثنا الإسلامي العظيم سببا لتأخرنا؟
إن الإجابة على هذا السؤال مرهونة بمدى الأمانة والموضوعية التي ينبغي أن يتحلى بها كل من يحاول الإجابة عليه من أعداء التراث…
{رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ}.
اللهم احفظ مصر وأهلها يا رب العالمين.
- د. عبد الغنى الغريب يكتب: العقيدة - السبت _18 _فبراير _2023AH 18-2-2023AD
- د. عبد الغنى الغريب يكتب: الدين والفلسفة - السبت _21 _يناير _2023AH 21-1-2023AD
- د. عبد الغني الغريب يكتب: أمي وأبي وفلسفة الموت - السبت _14 _يناير _2023AH 14-1-2023AD