سنة الله في المتخالفين المخالفين
ليس هناك أخطر وأعظم ضررا على الدين من الاختلاف والفرقة بين المسلمين، لأن ذلك يوهن قواهم، ويجرئ عليهم من عداهم وعاداهم، ولذلك عظم النكير وتكرر التحذير في خطاب الوحي -كتابا وسنة- من كل خلاف يؤدي لشق الصفوف واختلاف القلوب واجتلاب الفتن ..
وسنن الله القدرية الكونية لا تحابي المفرطين في سبل الائتلاف، والموغلين في أسباب الفرقة والاختلاف، لمجرد نزاعات حزبية أو نزغات شخصية، أو عصبيات مذهبية خارجة عن منهاج السنة النبوية، مهما كانت دعاوى اصحابها بحسن النية.
وقد لا يتصور بعضهم سوء العاقبة وأليم العقاب للمتخالفين المتفرقين في الدين ؛ إلا إذا تدبروا في ذلك ما تنزل به الكتاب المبين، وما نطق به الصادق الأمين، ﷺ.
تأمل مثلا هذا التهديد والوعيد الشديد:
{وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ}
[آل عمران/ 156] ..
وذاك العذاب العظيم مصحوب بمآل مهين للمتخالفين، و مقرون بتفخيم وتكريم للمتوافقين على الحق والدين..
{يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ}
[ آل عمران/ 156] ..
وقد نقل المفسرون هنا قول ابن عباس رضي الله عنهما:
«تبيض وجوه أهل السنة والجماعة، وتسود وجوه أهل البدعة والفرقة»
وذهب الطبري إلى أن اسوداد الوجوه هنا ليس خاصا بالكفار، بل هو أيضا في المختلفين في أصول الدين من المنسوبين للمسلمين، واحتج بحديث النبي ﷺ عندما قال لأصحابه:
(أنا فَرَطُكُمْ علَى الحَوْضِ، ولَيُرْفَعَنَّ مَعِي رِجالٌ مِنكُم ثُمَّ لَيُخْتَلَجُنَّ دُونِي، فأقُولُ: يا رَبِّ أصْحابِي، فيُقالُ: إنَّكَ لا تَدْرِي ما أحْدَثُوا بَعْدَكَ ).
أخرجه البخاري/6576
ولأن كثرة الاختلاف عن هوى وتعصب يورث العداوة والبغضاء غالبا؛
فقد حذر منه النبي ﷺ حتى في قراءة القرآن، فقال للمتخالفين في بعض وجوه القراءة :
(لَا تَخْتَلِفُوا، فإنَّ مَن كانَ قَبْلَكُمُ اخْتَلَفُوا فَهَلَكُوا)
رواه البخاري/ 3476.
بل بين الرسول ﷺ؛ أن اختلاف المسلمين حتى في صفوف الصلاة يورث تقلب القلوب واختلاف الوجوه،
فقال: (اسْتَوُوا ولا تَختَلِفُوا؛ فتَختلِفَ قلوبُكمْ) أخرجه مسلم/ 432
وقد اشتد خوف الصحابة من هذا التذير، ولم بستهينوا به، وتبين ذلك من رواية الصحابي الجليل، النعمان بن بشير، عندما قال:
(أقبَل رسولُ اللهِ ﷺ على النَّاسِ بوجهِه فقال: أقِيموا صفوفَكم، ثلاثًا، واللهِ لَتُقِيمُنَّ صفوفَكم أو ليُخالِفَنَّ اللهُ بينَ قلوبِكم،
قال: فرأَيْتُ الرَّجُلَ يُلزِقُ مَنكِبَه بمَنكِبِ صاحبِه، ورُكبَتَه برُكبَةِ صاحبِه، وكعبَه بكعبِه)
أخرجه أبو داود/663 وصححه الألباني.
وما للصحابة وهم خير جيل ألا يخافوا من هذا النذير، وهم الذين تلقوا بسماع مباشر الأمر والنهي النبوي في الحديث المتفق عليه..
(لا تَحاسَدُوا، ولا تَباغَضُوا، ولا تَجَسَّسُوا، ولا تَحَسَّسُوا، ولا تَناجَشُوا، وكُونُوا عِبادَ اللهِ إخْوانًا..) .. وهم أول من سمعوا الخطاب الإلهي ..
{وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} .. الأنفال/46
لقد صبروا وثبتوا وامتثلوا قول الله تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا} آل عمران/103
فاجتمعوا ولم يتفرقوا، حتى سادوا وقادوا، وحكى تفاصيل ذلك أهل التاريخ والتفسير والسير، ومنهم الإمام ابن كثير، حيث قال:
«قهروا الجميع حتى علت كلمة الله وظهر دينه على سائر الأديان وامتدت الممالك الإسلامية في مشارق الأرض ومغاربها في أقل من ثلاثين سنة، فرضي الله عنهم وأرضاهم أجمعين وحشرنا في زمرتهم إنه كريم وهاب» ..
اللهم آمين.
( يتبع بإذن الله)..
- د. عبد العزيز كامل يكتب: محنة العلماء.. (٢) - السبت _28 _يناير _2023AH 28-1-2023AD
- د. عبد العزيز كامل يكتب: محنة العلماء.. (١) - الأربعاء _25 _يناير _2023AH 25-1-2023AD
- د. عبد العزيز كامل يكتب: وقفات ضرورية مع قوانين الأحوال الشخصية - الخميس _5 _يناير _2023AH 5-1-2023AD