زيادة التزود من التقوى في شهر الصيام ؛ هو سر رمضان وعظمته، وغاية الصوم وثمرته، ولهذا كتب الله الصوم علينا وعلى الذين من قبلنا شهرا كاملا من كل عام.. لاستجماع الرصيد والزاد لبقية العام، فقال (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) [البقرة/١٨٣]
تتعدد الأقوال في تعريف التقوى وتوصيف المتقين، ولكن من عايشوا أجواءها، ولامسوا جوهرها، وأحيوا حياتهم بها من سلفنا الكرام، هم أقرب من يقربنا لفهمها، نظرا لقربهم منها، وقد سئل عنها أبو هريرة صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لسائله: ” هل أخذت طريقا ذا شوك؟ قال نعم، قال: فكيف صنعت؟ قال: إذا رأيت الشوك عدلت عنه أو جاوزته أو قصرت عنه، قال: ذاك التقوى” .
وما أكثر الطرق الشائكة بالفتن في عصرنا..
ورمضان فرصة للتعود على اجتنابها والنجاة منها
وقال أبو الدرداء – رضي الله عنه – مبينا حقيقتها : «هي أن يتقي ربه، حتى من مثقال ذرة، وحتى يترك بعض مايرى أنه حلال، خشية أن يكون حراما، ليكون حجابا بينه وبين الحرام»
وكشف الصحابي الجليل- طلق بن حبيب – عن روح التقوى فقال: «هي أن تعمل بطاعة الله على نور من الله، ترجو ثواب الله، وأن تترك معصية الله، على نور من الله، تخاف عقاب الله» [جامع العلوم والحكم ٢/٤٠٠]
وزيادة الأخذ من الحسن الجميل من الأعمال بالتقوى، لايغني عن ترك السيئ والقبيح منها، فقد قال النبي – صلى الله عليه وسلم – (الصوم جنة) [متفق عليه] والجنة -بضم الجيم- هي ما يتقى به من الضرر والأذى، ولا أشد ضررا على الإنسان من المعاصي والذنوب، ولهذا قال بعض أهل التفسير في معنى (لعلكم تتقون )..أي تتقون المعاصي.
فاللهم إنا نسألك الهدى والتقى، والعفاف والغنى، ونسألك خشيتك في الغيب والشهادة، وكلمة الحق في الغضب والرضا.. آمين
رمضان.. واستثمار الأعمار
رمضان زمن شريف له حرمة، وحُرمته الزمانية كحرمة الحَرَم المكانية، لتنزُّل البينات من الهدى والفرقان فيه : (شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدىً للناس) [البقرة/١٨٥] ..
بل إن كل ماهو معروف من الكتب السماوية تنزلت فيه، كما جاء في الحديث :
(أنزلت صحُف إبراهيم في أول ليلة من رمضان، وأنزلت التوراة لستٍ بقين من رمضان، والإنجيل لثلاث عشرةٍ خَلَت من رمضان)
[أخرجه أحمد في مسنده (١٦٥٣٦) وحسنه الألباني في السلسلة(١٥٧٥).
لذلك فإن لزمان رمضان خصوصية تعبدية؛ استحق من ضيعها بأن يُوصف بأنه (محروم)، وصدق من قال من أهل العلم :
«من رُحِم في رمضان فهو المرحوم، ومن حُرِم خيره فهو المحروم، ومن لم يتزود لمعاده فيه فهو المَلُوم» [لطائف المعارف/١٤٨].
فراقب مسيرة عمُرك،
وقارنها بحصيلة شهرِك لتعلَمَ أين أنت، فالأمر كما قال الإمام ابن القيم:
« العبد من حيث استقرت قدمُه في هذه الدار؛ فهو مسافرٌ إلى ربه، ومُدة سفره هي عمره، والأيام والليالي مراحل،
فلا يزال يطويها حتى ينتهي السفر، فالكيِّس لايزال مهتمًا بقطع المراحل فيما يقربه إلى الله، ليجد ماقدم حاضرًا» [طريق الهجرتين/١٨٥]
وما أعظم نصح من وصفه ربه بأنه (حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم):
حينما قال صلوات الله وسلامه عليه: (نِعمتان مَغبُون فيهما كثير من الناس؛ الصحةُ والفراغ)
[رواه البخاري/٦٤١٢] ..
فسائل أوقاتَ شهرِك عن سنوات عمُرِك، لتتدارك ما فات فيهما قبل الفوات، وتأمل كلام أهل العلم والدين،
كالإمام ابن رجب، عندما نادى من أضاع رمضان فقال:
«يا مَنْ ضيع عمُره في غير طاعة؛ يـا من فرَّط في شهره، بل في دهره وأضاعه، يا من بضاعته التسويف والتفريط وبئس البضاعة،
يـا من جعل خصمه القرآن وشهر رمضان..كيف ترجو من جعلته خصمك يوم الشفاعة؟» ..
فاللهم بارك لنا في أعمارنا وأعمالنا وسائر أمورنا،
وأصـلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلح دنيانا التي فيها معاشنا،
وأصلح لنا آخرتنا التي إليها معادنا، واجعل الحياة زيادة لنا في كل خير، والموت راحة لنا من كل شر…
آمين..
أخلاقك.. برهان صدق صيامك
إذا كانت تقواك -أيها الصائم- هي الأثر الباطن المرجو من أداء فريضة الصيام؛ (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) [البقرة/١٨٩]
فإن حسن أخلاقك هو الأثر الظاهر المطلوب من ورائها، فصلاح الباطن بالتقوى تظهر آثاره في حسن الخلق،
ورمضان فرصة للتعبد بتلك العبادة التي لا تدانيها في الموازين عبادة، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم:
(ما مِن شيءٍ أثقلُ في الميزانِ من حُسنِ الخُلُقِ)
[أخرجه أبو داود واللفظ له، والترمذي وأحمد، وصححه الألباني في صحيح الترغيب (٢٦٤١)]
ولحسن الخلق حقيقة لا تكاد تخطئها العين، ويصفها الحسن البصري -رحمه الله- بقوله:
“حقيقة حسن الخلق : بذل المعروف، وكف الأذى، وطلاقة الوجه”..
وعبر عنها القاضي عياض بقوله:
(حسن الخلق؛ هو مخالطة الناس بالجميل والبشر، والتودد لهم، والإشفاق عليهم، واحتمالهم والحلم عنهم، والصبر عليهم في المكاره، وترك الكبر والاستطالة، ومجانبة الغلط والغضب والمؤاخذة)
[جامع العلوم والحكم /١/٤٥٧]
– وارتباط التقوى وحسن الخلق بالصيام، يظهر من قول النبي صلى الله عليه وسلم : ( الصيامُ جنَّةٌ، فإذا كان أحدُكم صائمًا فلا يَرفُثْ ولا يَجهلْ، فإنِ امْرُؤٌ شاتَمَه أو قاتَلَهُ فَليَقُلْ إنِّي صائمٌ) [متفق عليه]
والاقتران بينهما واضح في السلوك العام، من قوله عليه الصلاة والسلام :
(اتق الله حيثما كنت، وأتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن).
[رواه الترمذي وحسنه وصححه الألباني في الترغيب (٣١٦٠)]
ولأنه – صلى الله عليه وسلم – أعلم الناس برب الناس؛ فقد ورثه ذلك كمال الخشية وتمام التقوى، كما قال :
(إنِّي لَأَخْشَاكُمْ لِلَّهِ وأَتْقَاكُمْ له) [أخرجه البخاري ٥٠٦٣] وظهرت ثمرة ذلك في مدح الخالق العظيم لأخلاقه : (وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ ) [القلم/٤]
فاللهم اهدنا لأحسن الأخلاق، لا يهدي لأحسنها إلا أنت، واصرف عنا سيئها، لايصرف عنا سيئها إلا أنت ..
اللهم آمين..
سبق الذاكرين المكثرين.. لسائر الصائمين
الإيمان يزداد في قلوبنا بالطاعات والصالحات، وتنقصه المعاصي والغفلات، ولا أزيد للإيمان وأذهب لآثار الغفلة من ذكر الله، كما في الحديث
(أَلَا أنَبِّئُكم بِخَيْرِ أعمالِكُم، وأَزْكاها عِندَ مَلِيكِكُم، وأَرفعِها في دَرَجاتِكُم، وخيرٌ لكم من إِنْفاقِ الذَّهَب والوَرِقِ، وخيرٌ لكم من أن تَلْقَوا عَدُوَّكم، فتَضْرِبوا أعناقَهُم، ويَضْرِبوا أعْناقكُم؟!،
قالوا: بَلَى، قال: ذِكْرُ اللهِ) [رواه الترمذي، وابن ماجة واحمد،وصححه الألباني في المشكاة (٢٢٠٩)
ولعظيم فوائد الذكر وفضائله؛ لم يأمرنا تعالى بأن نذكره فحسب؛ بل دعانا للإكثار من هذا الذكر، وقرن ذلك بصلاته سبحانه، و ورحماته وثنائه ودعاء ملائكته، فقال:
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا (41) وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (42) هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ ۚ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا) ( الأحزاب/43)
وأجور الذاكرين، وبخاصة الصائمين، لا يقدر مقدار عظمتها إلا الله:
(وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا) (الأحزاب/35)..
وقد شهد النبي صلى الله عليه وسلم؛ بالسبق في الفوز للذين ينفردون بربهم ذاكرين في خلواتهم وجلواتهم، فقال : ( سَبَقَ المُفَرِّدُونَ قالوا: وَما المُفَرِّدُونَ؟ يا رَسولَ اللهِ، قالَ: الذَّاكِرُونَ اللَّهَ كَثِيرًا، وَالذَّاكِرَاتُ.: [رواه مسلم/ ٢٦٧٦]
ورمضان أكبر ميدان للسباق في تحصيل كنوز الذكر التي تحيي القلوب بروح الصيام ؛ قال النخعي رحمه الله: (صوم يوم من رمضان أفضل من ألف يوم، وتسببحة فيه خير من ألف تسبيحة، وركعة فيه خير من ألف ركعة) [كتاب وظائف رمضان لابن رجب ص١٥]..
فاللهم اجعلنا لك ذكارين، لك شكارين، إليك مخبتين منيبين.. يارب العالمين
- د. عبد العزيز كامل يكتب: بعد هدوء العاصفة! - السبت _14 _مايو _2022AH 14-5-2022AD
- د. عبد العزيز كامل يكتب: مليونيات المساجد.. والاختيار الأخير - الأحد _8 _مايو _2022AH 8-5-2022AD
- د. عبد العزيز كامل يكتب: مليونيات المساجد.. والاختيار الأخير! - الخميس _5 _مايو _2022AH 5-5-2022AD