في بداية الدعوة، وفى فجر الإسلام، وفى الصحوة المسلمة النبوية، خاف المشركون من دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وخططوا كثيرا لمواجهتها بأشكال متنوعة،
واستخدموا في ذلك أساليب مختلفة، ومن تلك الأساليب، مطالبة قريش في توحيد الديانات،
وخلط المناهج حيث دعوا إلى أمر بسيط في ظاهره، وخطير في محتواه،
فقالوا: يا محمد، نعبد إلهك مرة، وتعبد إلهنا مرة، وبهذا ننهى الصراع العقدي والفكري،
وتنتهي المواجهة الدائمة، فيتم في خلط الشرك بالإيمان، والكفر بالإسلام، وتضيع حقيقة الدعوة.
في هذه اللحظة الحاسمة،
وفى هذه المرحلة الخطيرة، تتنزل سورة قصيرة في عدد آياتها، وعظيمة في قدرها، ومهمة في معناها
حيث تحمل في طياتها معنى دقيق، وهو أن الإسلام منهج فريد، وحقيقة سماوية،
ولا يمكن خلط الإسلام بغيره، ففهم زعماء قريش أن هذا المنهج ليس من محمد عليه الصلاة والسلام،
فكانت السورة (قل يا أيها الكافرون. لا أعبد ما تعبدون. وَلا أنتم عابدون ما أعبد. ولَا أنا عابد ما عبدتم. ولا أنتم عابدون ما أعبد. لكم دينكم ولي دين.)
نجد هنا ثلاثة أمور،
فالأمر الأول هو أن القرآن غيّر أسلوبه في مخاطبة قريش، وغير المسلمين من المخالفين،
فكان من الأسلوب المتبع في المرحلة المكية حين يخاطب غير المسلمين بأن يستخدم كلمة (يا أيها الناس)،
ولكن هذه المرة، كان الخطاب (يا أيها الكافرون)، ذلك لأن فقه المرحلة تتطلب ذلك حتى لا يتم تمييع الدين، وتغيير المنهج، وتضييع الحقيقة الإسلامية،
فلا يمكن خلط الباطل بالحق، ولا يمكن خلط الدين السماوي بالأفكار البشرية، ولهذا كان الخطاب شديدا،
أما المسألة الثانية،
فتكمن في رفض صناعة ديانة جديدة تنتج من تفاهم بين الناس، فالدين من الله، وليس من البشر،
والله هو الذي اختار هذا الدين (إن الدين عند الله الإسلام)،
وليس مصنوعا من عند محمد عليه الصلاة والسلام،
والأمر الثالث،
هو أن لكل واحد من البشر دينه، وبالتالي فلكل دين معبوده، ولأجل هذا فلا يمكن خلط المعبود الحقيقي بالمعبود الزائف.
لقد أنهى المنهج الإسلامي بهذا الأسلوب الواضح والفريد الجدل الجديد الذي يخلط بين الديانات، ويصنع للناس دينا جديدا،
ويدعو إلى ديانة واحدة تخلط بين الإسلام، واليهودية، والمسيحية تحت مسمى جديد وعجيب (الديانة الإبراهيمية)
وهذا النوع من التمييع للدين يجعل الإسلام جزءا من الحقيقة، ومن هنا يمكن للإنسان أن يكون مسلما،
ويمكن له أن لا يكون مسلما، ولكنه مع ذلك فهو بهذا لن يكون كافرا،
ويحاول البعض من خلال الإعلام الفاسد نشر فكرة خاطئة مفادها (توحيد الديانات)،
والله يقول (ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه، وهو في الآخرة من الخاسرين).
فى السورة نجد أمرين في غاية من الأهمية، وخاصة في المجال التربوي، وفى المجال العقدي، وهما:
أولا:
الاعتزاز بالدين، والتمسك بالمذهبية الإسلامية، وعدم التردد في ذلك، ولهذا كرر صاحب التشريع هذه العبارات
(لا. أعبد ما تعبدون. ولَا أنتم عابدون ما أعبد.. وَلا أنا عابد ما عبدتم.. ولَا أنتم عَابدون ما أعبد)،
فالتكرار هنا ليس لفظيا، وليس كذلك عبثيا، فالمراد منه صناعة اليأس من توحيد الأديان،
وعدم خلط الأوراق في هذا المجال الحيوي والخطير.
ثانيا:
ترسيخ الحرية في هذا المجال (لكم دينكم، ولي دين)،
فالدين خيار، وليس إكراها، ليس لكم أن تكرهوا المسلمين في خلط دينهم بغيره، وليس للمسلمين أن يفعلوا ذلك،
لأن الخيار هو الذي يصنع التدين الصحيح،
أما الإكراه فيصنع التدين الزائف، ومن هنا نجح كتاب الله صناعة مناخ جديد يجمع بين الحرية الدينية،
والاعتزاز بالدين الصحيح، وهذا هو المنهج الإسلامي الفريد في خطابه.
إن الاعتزاز بالدين مطلوب في كل مراحل الدعوة،
في بداية الدعوة، وفى نهاياتها، فلا يمكن للمسلم التنازل من الأساسيات،
ولا يمكن له أن يخلق دينا غير الإسلام لأجل التعايش مع الآخرين،
ولكنه يطالب منه أن يتمسك بدينه، ويتعايش مع الآخرين،
فهذا يمكن له، لأن الإسلام دين يحاور، ويقنع، ويقبل أن يسمع،
ولكنه ليس دينا قابلا للتدجين، والتغيير (ومن أحسن قولا ممن دعا إلى الله، وعمل صالحا، وقال إنني من المسلمين).
إن بعض المسلمين يعيشون في لحظات الانهزام الداخلي التراجع من القيم والاعتزاز،
وفى مرحلة التراجع يشعرون بنوع من اليأس،
ولهذا تجدهم يخافون من الاعتزاز بالدين، ذلك لأن بداية الهزيمة من الداخل، وليس من الخارج،
ومن هنا كان الخطاب السماوي إثر الهزيمة في غزوة أحد واضحا، فقد يقبل المسلمون الهزيمة العسكرية والسياسية،
وهذا من سنن الله في الحياة (وتلك الأيام نداولها بين الناس)، ولكن لن يكون مقبولا عند المسلمين الهزيمة النفسية
(ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين)
فالهزيمة النفسية
تؤدى إلى الهزيمة الحضارية، والانهزام الحضاري هو السبب الأساسي في الخروج من دائرة الفعالية الحضارية والدخول في لحظات العطالة،
ومن هنا يصبح الإنسان المسلم مفعولا به، وليس فاعلا.
إن الخطورة تكمن في الجمع بين الحرية والعزة،
فالآخر يطالب من المسلم أن لا يجمع بينهما، فإما أن يكون معتزا بالدين دون الحرية،
أو أن يكون حرا بدون عزة، ومن هنا يكون المسلم بلا هوية، وبلا حرية، ونحن ندعو إلى الجمع بينهما،
فلا يمكن لنا أن ندعو الناس إلى الإسلام بدون هوية، ولا يمكن أن نصنع حضارة بلا حرية.
- د. عبد الرحمن بشير يكتب: التفاهة الفكرية في زمن الكلام العاطفي - السبت _25 _يونيو _2022AH 25-6-2022AD
- د. عبد الرحمن بشير يكتب: قراءة لسورة «الكافرون» من زاوية أخرى - الثلاثاء _7 _يونيو _2022AH 7-6-2022AD
- د. عبد الرحمن بشير يكتب: فقه الحياة من زاوية جديدة - الجمعة _3 _يونيو _2022AH 3-6-2022AD