يعتبر الدكتور عدنان إبراهيم من المفكرين الكبار، ومن المتحدثين عن الإسلام والواقع معا، ومن الناقدين الأساسيين في تاريخ الفكر الإسلامي، وتاريخ الفكر البشري،
والرجل موسوعي بلا شك، وقارئ نهم بلا ريب، وله أسلوب خاص في الطرح والتناول، وقد لمع نجمه قبل عقدين،
وكان من وراء ذلك خطبه الأسبوعية، ومنبره في النمسا حيث يتناول موضوعات قوية جدا، ويشرح قضايا معقدة في المسجد،
ولكن بأسلوب متميز حيث يحاول أن يجمع في خطابه بين قوة العاطفة،
وقوة الطرح والحجة، ومن أهم ما تميز به المفكر الخطيب الدكتور عدنان إبراهيم رؤيته الفلسفية،
ومناقشاته العميقة فى مسألة (الوجود)، ومواجهته للفكر الإلحادي بشكل غير مسبوق.
ناقش سابقا الفكر السلفي، وخاصمه بشكل عنيف، وردّ عليه بهجمات صاروخية غير عادية، وعادى كل ما هو سلفي،
ولكنه بعد زمن غير قصير عاد من هذه الخصومة، ومدح الشيخ ابن باز والعثيمين رحمهما الله، وأعطى السعودية الجديدة صكوكا،
وجعلها دولة عظيمة تدخل التاريخ من خلال مشاريع الترفيه، ومن هنا انتهت الخصومة بينه وبين السعودية كدولة، وبينه وبين الفكر السلفي كفقه وعقيدة.
الرموز الدينية في تاريخ الأمة المسلمة
ناقش كذلك فى وقت سابق الرموز الدينية في تاريخ الأمة المسلمة، ووجّه مدافعه الثقيلة على الصحابي الجليل (معاوية بن أبي سفيان) رضي الله عنه،
وعلى أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، وعلى الصحابي الجليل، أبى هريرة رضي الله عنه راوي الأحاديث الكثيرة عن رسول الإسلام،
ونبي الأمة محمد بن عبد الله عليه الصلاة والسلام، فأعلن الحرب على هؤلاء، وفى مقال قديم كتبت عنه، ذكرت بأن عدنان إبراهيم شخصية مهمة، ومفكر قدير،
ومن العيب أن يتناول الرموز الدينية بهذا الأسلوب، ولست وحدى من فعل ذلك، بل كان الشيخ سلمان العودة الذي زاره في بيته، وجلس معه،
ورأى أن الرجل لديه عبقرية في مجال عديدة، ولكنه نصحه بترك التناول السلبي للصحابة،
وخاصة لمعاوية، مؤسس الدولة الأموية، وعائشة مؤسسة فقه نقد الحديث بالقرآن، وأبو هريرة، صاحب رسول الله، والراوي عنه،
وكذلك فعل المفكر القدير، والمدرب العالمي الدكتور طارق السويدان، والأستاذ المقرئ الإدريسي، المفكر المغربي.
فى وقت سابق، كان مع الشيعة،
ورأى أن الفقه الشيعي مبني على منطق معقول، وأنه ليس بالإمكان تجاوز مدرسة الشيعة بالفكر السلفي الحاد،
بل ورأى أن عليا رضي الله عنه مظلوم من مدرسة أهل السنة، وخاصة من مدرسة ابن تيمية رحمه الله،
وظن كثير من أهل السنة أنه من الشيعة، ولكنه يستخدم التقية، وهكذا بقي زمنا غير قصير.
لقد مرّ الدكتور عدنا إبراهيم كل هذه المحطات، وخطب، وحاضر، وكتب، وناقش،
ولكن كيف كان ينظر حينئذ إلى المفكر الإسلامي سيد قطب رحمه الله ومشروعه (في الظلال)؟
وكيف كان ينظر إلى الفقيه الإسلامي يوسف القرضاوي ومشروعه (الوسطية والتجديد)؟
استمعت فى وقت سابق إلى خطبة له حول سيد قطب رحمه الله،
فأشار أنه من أعظم المفكرين، ومن أهم رجالات التاريخ، وأنه رجل قام لله، واستشهد في سبيل الله، وأن مصر لم تلد مثله فى العصر الحديث،
ولكنه بعد عقد أو أكثر بقليل، رأيت الرجل وهو يتناول سيد قطب رحمه الله، ويجعله الصندوق الأسود للحركات الهدامة، والأب الروحي لحركات التفجير والخراب،
بل وجعل سيد قطب بلا عقل، لأنه أخذ وحمل الفكر من السيد أبى الأعلى المودودي رحمه الله، ذلك الرجل الأعجمي الذي كتب كتبا كله ضد الدولة الحديثة،
وهكذا فكر الرجل وقدر، وذهب في حق الرجل من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، ولم يخبرنا كعادة بعض الناس،
لماذا انتقل من اليمين إلى اليسار؟ ما العيب الذي ظهر له؟ وما العيب الذي ظهر سابقا في السعودية، وفى الفكر السلفي، وما الجديد الذي حصل له بعدئذ؟
في خطبة سابقة له حول الظاهرة (القرضاوية) الفقهية والتجديدية،
ذكر فيها بأن القرضاوى علامة الزمن، وفقيه العصر، ومجدد الفقه بلا منازع، وذكر ما هو معروف في الشيخ عند أغلب العلماء في هذا الزمن،
ولكنى وجدته يتكلم بلا حياء عن الشيخ بعد وفاته، ويكذب عليه بلا أدلة، ويناقش أفكار الشيخ بلا اعتدال، وفقد الرجل الميزان،
فالرجل يمدح ويسب، ولكن بلا ميزان، ويرفع من يشاء، ويخفض من يشاء، ولكن بلا دليل، يتكلم في قضايا معقدة،
ولكن بتسرّع، كل ذلك يجعلنى أسأل، ماذا يريد الشيخ عدنان إبراهيم؟ ولماذا هذا التناقض الصريح فى كلامه؟
فى بداية الربيع العربي،
طار إلى السماء، وفرح مع الجماهير العربية المتعطشة للحرية، وخطب خطبا كلها مع الربيع، ومع الثورات، وأن هذه الأمة عادت من جديد من خلال ميادين الحرية والثورة،
ولكنه بعد زمن ليس بالقصير، نزل على الثورات، وساند الثورات المضادة، وكأنه ليس هو الذي ساندها،
وصنع لها فقها يشبه فقه كتاب الشيخ سلمان العودة (أسئلة الثورة)، أو كتاب (فقه الثورة) للريسوني،
فكان يرى بأن الربيع العربي نتيجة ظلمات داخلية، وقهر حكام واستبداد، وفرح بذهاب الأصنام البشرية،
ولكنى وجدته ينزل على البسطاء الذين قاموا ضد الظلم، فجعلهم دمى للغرب، ومشاريع خارجية،
وحينها فهمت بأن الرجل لم يجلس بعد فى ميدان السياسة فى عتبات مرحلة الدراسة الابتدائية.
مرحلتان، ومنهجان، ورؤيتان:
يمكن أن نتحدث عن مرحلتين مرّ بهما المفكر الدكتور عدنان إبراهيم، ومن خلال هاتين المرحلتين نتج منهما منهجين في التعامل مع الواقع، وينطلق الرجل للشرح والتفسير والتأويل من رؤيتين، ولهذا يجب علينا للإنصاف أن نقول ما يلى:
أولا:
إن الدكتور عدنان إبراهيم مفكر قدير، وفيلسوف كبير، وعقل جبار، وهذا لا يرفضه إلا من يكابر، أو لا يرى الحقائق كما هي.
ثانيا:
لديه قراءات واسعة، ومدارسة قوية لعالم الأفكار، وخاصة في الفكر الغربي، وعنده حجة قوية في دحض الشبهات، وخاصة فيما يتعلق بعالم الفكر الفلسفي والإلحادي.
ثالثا:
يمتلك الرجل لغة قوية، وأسلوبا علميًا رشيقا، وعنده ذاكرة قوية، بل ويملك قوة الاستدعاء، ولهذا تجد المعلومات تتصارع فى عقله، فيكون حيرانا ماذا يأخذ؟ وماذا يترك؟
إن الرجل عليه ملاحظات قوية ودقيقة، ومن هذه الملاحظات:
أولا: استخدام أسلوب (التضخيم)
لكل ما هو يريد تسويقه، والتهوين لكل ما هو يريد دحضه، وهذا ليس أسلوبا علميا، فهو مثلا يقول حين يريد مدح إنسان يصفه (بالعقل الجبار)،
أو (المفكر الاستثنائي)، ولكنه يصف الإنسان ذاته فى وقت لاحق بأنه (حقير) أو (تائه) أو (معتوه) وهذه الألفاظ ليست علمية، وليست كذلك لائقة بمفكر قدير مثله.
ثانيا: التذبذب في المواقف، وعدم الثبات في المبادئ،
فمن حق الرجل أن يتطور، وأن يناقش المسائل بروح رياضية وعلمية، ولكن ليس من حقه أن يتلاعب بعقول الناس،
فالناس ليسوا بلا أدمغة، ولم يفقدوا بعد الذاكرة، ولهذا يجب عليه احترام العقول.
ثالثا: الإطلاق في الأحكام،
سئل مرة أفضل دولة فى الشرق الأوسط من حيث حقوق الإنسان، فأجاب بلا تردد (الإمارات)،
وسئل مرة أخرى عن السعودية ما بعد الصحوة، فأجاب أنها على الخط الصحيح،
لأنها أنشأت (هيئة الترفيه) بدل (هيئة الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر)،
وتكلم عن حسن البنا والدولة القطرية، فذكر بلا تردد أنه كان ضد الدولة، بل ضد الوطنية، ومن سخريات الرجل، أنه لا يعرف، أو يعرف،
ولكنه يتجاهل أن حسن البنا تحدث عن أنواع من الوطنية منها وطنية الحنين، ووطنية الحرية والعزة، ووطنية المجتمع، ووطنية القومية، ووطنية الحزبية،
وتحدث عن واقع ومثال، عن عالم صُنع في مؤتمر سايكس بيكو، وعن وطن يبحث عن وحدة ممكنة،
والرجل انتقد الفكر السلفي كله في لحظة ما، وتراجع عن ذلك كله في لحظة تالية،
فهذا النوع من الإطلاق في الأحكام ليس من الفقه الرشيد، ويمكن أن نرى منهجيته عدم الترابط والتماسك.
رابعا: التعميم، وعدم التوازن في المدح والقدح،
فالرجل نزل قديما على الصحابي الجليل أبى هريرة رضي الله عنه، ولم يدرس ظاهرة (الرواية) كمنهج
بل فتح باب جهنم للشباب الصغار الذي حسبوا كلامه علما لا يردّ، فردّوا أحاديث صحيحة بلا منهجية علمية،
وهكذا فعل مع الصحابي الجليل معاوية رضي الله عنه، فجعله خارجا من دائرة الصحبة، ونحن لا نرى أن معاوية لم يخطئ،
ولكننا نرى أنه أخطأ سياسيا، وأصاب سياسيا، ونجح في تكوين دولة قوية لها شأنها فى التاريخ،
وأسقط تجربة راشدة كانت لها شأن في حياة البشر، ولكن الحساب عند رب العالمين، ونحن ندرس التاريخ للعبرة لا للتشفّي.
أما بعد:
لقد عاش الرجل فى مرحلتين، مرحلة ما قبل الربيع العربي، ومرحلة ما بعد الربيع العربي،
فقد كان الرجل مع الأمة في المرحلة الماضية، وحمل همومها،
ولكن مع دخن فكري وسياسي، وبعد تعثر الربيع العربي، والنجاح النسبي للثورات المضادة،
تحوّل الرجل من اليسار إلى اليمين، ومن طرف الأمة إلى طرف الحكام،
ومنحت له حينا فرصة الظهور في قناة (الخليج)، فتكلم هناك ليهدم مرحلته السابقة،
وتم استخدامه بشكل غير علمي، ولهذا لا يملك الرجل حريته بعد هذه المرحلة.
إن التعامل مع الدول والأنظمة يحتاج إلى فقه وفن،
كما يتطلب إلى علم وموقف، وليس من الشجاعة أن تقول الرأي وضده في المكان الواحد،
ولكن من الشجاعة التماسك في المواقف المختلفة، والثبات في الشدائد، وخاصة حين تعيش في بلاد الحرية بلا خوف،
فهذا زمن صعب تتغير فيه القناعات بلا حجج، وتتحول الإرادات بلا توقف، والله هو المعين.
- د. عبد الرحمن بشير يكتب: تعلمت من الحياة - الخميس _25 _مايو _2023AH 25-5-2023AD
- د. عبد الرحمن بشير يكتب: ابتسم مع كل إشراقة فجر جديد - الأربعاء _10 _مايو _2023AH 10-5-2023AD
- د. عبد الرحمن بشير يكتب: الزمن الصعب.. والفقه المطلوب - الأربعاء _26 _أبريل _2023AH 26-4-2023AD